
لا أدري كيف تنادي الجدات في زمان الناس هذا أحفادهن، لكن جدتي كانت تطرّبني بـ”شريعتمداري يحفظ لي مسلم والبخاري” عرفت فيما بعد أن شريعتمداري سياسي ورجل دين إيراني لم يغن على هوى الخميني وقتذاك؛ وبقية اللازمة لم تقع، لكن أرجو أن تكون بركتها سكنت النفس والذاكرة…
ولكم كنت أطرب وأتمايل فخرا على تطريبها إياي فرحا بمقدمي، كنت أول الأحفاد من الذكور، وذا حظوة سأرث شيئا منها عند الأخوال..
والدنيا أيكة تخضَرُّ وتيبَس وتذروها الغاديات الرائحات، والأيام مسرعات، عدت أم أهملت، لا بد أن تتحق صفات الله عز وجل؛ الباقي الحي الذي لا يموت.. فأعدوا الزاد وارتقبوا، الموت ملاقينا، نساق إليه حتم أنوفنا، وهو منتظر، لا يتقدم، ولا يتأخر. أجفل واقفا حين أتذكر نقطة الأجل الأخيرة، هنالك، ثم هناك؛ فهنا. ويمضي بعضنا، بغتة وغفلة عياذا بالله، وآخرون بسبق إعداد وتخطيط كما جدتي سلم بنت سعيد ولد رمضان، ابنة العزيزين في “جنكة ميلود ببوتلميت”.
المآقى ملأى تنهمر، لا قافز إليها، والرزء لولا لطف الله يصهر القلوب، قاتل الله الغربة اللئيمة، اللعينة تشبه المرابي في قضاء دينه، تقرضك مالا، ثم تستعيده نسيئة هما، وفقدا، والله المستعان..
الصبا في كنف الجدة
الحفيد الأكبر في مجتمعاتنا غالبا ما يعيش في كنف الجدات، كذلك كنت، تهجيت الحروف معها، وختمت القرآن معها، خضبتْ يدي اليمنى بالحناء يوم أكملت القرآن، وفاخرت بي كثيرا، مع أن كل أبنائها من الحفاظ حمدا لله. وها إنها تنقذني من براثن التعذيب بنزع الأصفاد من رجلي يوم تسلط علي أحد المربين، تقول افتح السلسلة حتى لا يألفها، كان ذلك بوشاية من لئيم بليد يمقتني، كان رأسه ملزما لبصاقي أسقي شعره غدوا وعشيا، إذ أحفظ قبله، تكرر هذا المشهد مرات، كنت مشاغبا، أظلم، وأُظلم أحيانا، قطعا لم أكن الطفل الوديع..
وإن في أذني تسميعها لسور القرآن التي حفظت على كبر. كانت تتتعتع، ولسخفي أضحك، تقول، لي أجران وتردف، قال لي الشيخ محمد ولد المصطفى تعني البارتيلي رحمة الله عليه إن قارئ القرآن الذي يتتعتع له أجران، يصدق ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم “الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجره مرتين”.
المذياع وعصيد القمح.. والطوافون
ثمة في ميعة الصبا أحداث لا يدري المرء ما قبلها ولا يتذكر ما بعدها، هي التي سأحكي نتفا منها.. في غبش الفجر كنا نستيقظ على مذياع الجدة سلم منت سعيد، ومنه ياللعجب رضعت حب الصحافة؛ صوت أمريكا ودقات بيغ بن، ومن بينهما إذاعة موريتانيا، المذياع كان من المعدودين في الحي، ربما الذي لا يطفأ إلا وقت النوم، وفي ليالي رمضان يكون حاضرا وقت السحور، وكنت غير مرحب بي عند البعض أحضر أيضا، كانت الخيمة محطة بث غير رسمية، يطبق الصمت عند بداية العناوين، ومع التفاصيل، ثم تعقب النشرة تحليلات، كلها أماني بتحقق شيء لم أكن أدركه، وحين بصرت، أدركت أن الأماني وحدها لا تكفي لتحققه، حرب العراق وإيران، ثم بعد ذلك غزو العراق للكويت وما تبعه حتى الساعة.
لم يكن مذياع سلم كغيره في الحي، أخباره لم تك حافية، بل مع إدام من العصيد، ثمة ناشدو الأخبار وتبعاتها، ومستطعمو عصيد القمح الساخن مع الحليب المجفف لهم صولات دائمة، كنت أعرفهم بأقداح تَسَمَّوا بها، كل قادم يلقى عند جدتي ما يريد، المستخبر، والمستطعم، وزمن الناس ذاك جميل، وهمهم قوت يومهم، لا غير.
كان أحد الطوافين على العصيد يفاخر أن ابنه يحفظ نصف القرآن، ولا يصلي، ترد وهي تقصدني، لدي من يحفظه كاملا مع الصفة السابقة، كانت تلك طريقتها في التربية.
سلم الداعية الموحدة…
منتصف الثمانينات ظهر ما عرف بالصحوة الإسلامية، ومن ملامحها حلقات كان بعض أهل الحي يسمي مرتاديها تنمرا “الدعاة” و”الوهابيين” ويلعن. أعتقد أن ذلك كان بحسن نية. برزت في ثنايا تلك الخلافات حلقات للتوحيد، والقرآن، والسنة، لكأن مجددين بعثوا فينا، كنا نتبع دينا غير الذي يتحدثون عنه، ولبس نسائهم جلابيب، وخُمُر، حين تراهم تقفز إلى ذهنك صورة الغربة، وكانوا هم أيضا يتحدثون عن ذلك، كانت سلم تختلف إلى تلك الحلقات، صدرت بكثير من الحق، والتوحيد، والحث على القرآن والسنة، ورعاية أهلهما، وتحملت في ذلك أذى من بعض الأقربين، عفا الله عنهم.. هذا هو الدين.
لا أدري لماذا لست مفجوعا بقدر المصيبة، إن من خلف حفاظا لكتاب الله ودعاة موحدين، لا يُفجع لرحيله، نحزن في دائرة الرضى بقضاء الله وقدره، ونسأل الله لها الرحمة والغفران وجنة الفردوس، ولا نزكي على الله أحدا، نحسن الظن بربنا، وحتما لا يستوي عند الله من عمل لآخرته ومن لم يعمل لها. اللهم اجعل سلم ممن آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.