
صباح الخير
قضيت قرابة الشهر من دون الفيسبوك، الأمر ليس سيئا ويساعد في الاسترخاء الذهني والابتعاد عن زوابع الترند، التي سرعان ما تختفي إحداها بسرعة بمجرد ظهور زوبعة أخرى أكثر إثارة للجدل. وهكذا تستمر الدوامة في التحرك داخل ثقب أزرق يبتلع الوقت والجهد، دوامة يستغلها من يهدفون - من خلال اجتذاب التفاعل - إلى بناء رأس مالي رقمي من " التأثير ". رأس مال يساعد في بناء أنشطتهم سواء كانت تجارية أو دعائية أو ذات طابع محلي مثل بناء علاقات عامة أو من خلال ممارسة الابتزاز والتشهير لخلق قوة رقمية رادعة لمصالحهم العابرة أو لتلك الأفكار التي يتبنونها، ولا يجدون من العمق المنهجي الكافي لتسويقها أو الدفاع عنها...
كما أنه لدينا حماية المستهلك يجب أن تكون لدينا أيضا حماية المتصفح.
أن الزمن في مواقع التواصل الاجتماعي سريع ومجنون ويكاد يخلو من التدرج المنطقي والصحي، ولا يترك مجالا للأفكار أن تعالج الأحداث بمنهجية علمية او بموضوعية. كل شيء يمضي بسرعة فائقة، يكون فيها الترند هو من يجلس خلف الموقد في سباق مع تريندات أخرى تظهر فجأة في الطريق ذات المسارات المتداخلة والنهايات المضببة...
فعليك أن تصرخ مع الجميع، دون أن تعرف سبب الصراخ
وأن تبكي مع الجميع، دون أن تعرف سبب البكاء
وأن تتشاءم مع الجميع، دون أن تعرف سبب التشاؤم
وأن تفرح مع الجميع، دون أن تعرف سبب الفرح
هذا إن كنت مستهلكا رقميا. أما إذا كنت تنوي بناء رأس مال رقمي، فعليك أن تبقي دائما في بؤرة الضوء التي يسطع فيها الترند واقفا بين الجمهور، من خلال قول ما يعجبه حينا وما يثير سخطه أحايين أخرى حسب ما يخدم زيادة نصيبك من الضوء. أما من يقول إن لديه رأي مستقل في مواقع التواصل، فهو يطرح جدلية وجود الحرية في الفلسفة بصيغة أخرى. أو بتعبير آخر أنه يذكرنا بالحجر الذي سمعنا قصته في الفلسفة، فعندما ترمي حجرا ثم تصبح له روح ووعي ربما يعتقد أنه حر ويختار المسار الذي يسلكه...
أما إذا كنت إنسانا طبيعيا فلا بد أن تدخل الكهف بين الفينة والأخرى، حتى تعرف الدنيا منين صادة؟ حتى تقيم وجودك في الحياة الطبيعية والواقعية والهادئة والمنطقية والحقيقية. رغم أن الحياة الحقيقية بدورها ربما لا تكون حقيقية، بل مجرد ظلال لشيء آخر..
عن نفسي، مع بداية المنشور لم تكن لدي فكرة محددة، فقط كان علي أن أكتب شيئا بما أنني خرجت من الكهف...
الصورة المرفقة من أمام متحف التاريخ في جنيف قبل أكثر من سنتين. أما في الحقيقة، فأنا أجلس الآن قرب النافذة في مدينة فصالة نيرة وفي السماء بقايا أنواء جاءت بنسيم صباحي لطيف بعد ليلة حارة تزمّت فيها الهواء. في الشارع، هناك دائما بقايا أصوات دراجات وموسيقى تنبعث من مسجل يحملنه عاملات من مالي يسرن في الشارع. يافعات جئن للعمل في المنازل قبل حلول مواسم العمل في الحقول التي يهدد حصادها دائما صوت المدافع والمسيرات. إنهن لا يستهلكن من ثمن رواتبهن غالبا إلا ثمن الموسيقى وصابون لغسل الملابس، أما بقية المدخرات فيتم من خلالها شراء المزيد من الأنعام في قراهم خلف الحدود. السعادة عندهن تتمثل غالبا في موسيقى مرتفعة الايقاع أثناء الذهاب أو العودة من العمل أو أثناء ممارسة التجوال وحسب...
أما السعادة لدينا نحن سكان فصالة، فتتمثل حاليا في عودة الكهرباء بشكل مستمر مع الماء. إن السعادة مجرد حاجة مؤقتة، ودائما هناك حاجة مؤقتة للإنسان. قد تكون السلام، وقد تكون الكثير من المال، وقد تكون الصحة، وقد تكون العدالة، وقد تكون الشهرة، وقد تكون القوة، وقد تكون السيطرة، وربما تكون حياة عادية وحسب، وربما تكون أشياء أخرى شديدة التنوع مثل تنوع خيال البشر الجامح...
كل نص يكتب أو كلمة تقال يراد لها معنى واحد، لكن اختلاف الفهم يجعل لها أكثر من معنى وأكثر من استدلال. لذلك، المعرفة نسبية، وما نراه حولنا لا يمثل حقيقة كاملة، بل هو مجرد فهم مؤقت وبأدوات محدودة. الجميل في كل هذا، أن الحقيقة قد تكون وهما، والوهم ربما يكون حقيقة صلبة...
على كل حال، الحياة معقدة وجميلة ولا تخلو من السعادة. طاب يومكم والله ولي التوفيق.