نشطت منذ عقود في بلادنا منظمات تنصيرية دولية تعمل على نطاق واسع تحت غطاء العمل "الخيري".. وظلت هذه المنظمات تمارس أنشطة مركزة للدعوة إلى اعتناق الديانة المسيحية في كافة أرجاء البلاد؛ مستغلة الظروف المعيشية للسكان،..
ومستخدمة مختلف طرق الدعاية والإغراء.. وخاصة على مستوى الشباب، الذين تستغل هذه المنظمات حاجتهم للعمل، وتعرض عليهم مغريات مادية وتأشيرات سفر إلى الغرب نظير اعتناقهم المسيحية. وكان بعض التقارير الأمنية قد أكد -في الفترة الأخيرة- اتساع ظاهرة التنصير بشكل ملفت؛ ونبهت تلك التقارير إلى أن العمل التنصيري في بلادنا بدأ يخرج عن حدود ما يمكن السكوت عنه.. مشيرة إلى أن المنظمات العديدة العاملة في هذا الميدان تعمل من خلال كوادر بشرية موريتانية مدربة، وأنها وزعت -على نطاق واسع- كتبا وأناجيل مطبوعة طباعة راقية، وكتبا موجهة للأطفال، وأقراصا مضغوطة، وأشرطة مسجلة عن حياة المسيح باللهجة الحسانية الواضحة..
وقد علق أحد الزملاء الصحفيين -بمرارة وتهكم- تحت صدمة المعطيات الخطيرة للحملات التنصيرية في بلادنا؛ متسائلا إن كان من الضروري الآن إجراء "إحصاء إداري ذي طابع ديني" قبل إعطاء أي نسبة عن المسلمين في البلاد.
حصلت "السفير" على معلومات دقيقة عن وجود خمس كنائس -غير مرخصة رسميا- في مقاطعة السبخة؛ تمارس فيها مجموعات من دول غرب إفريقيا شعائر الديانة النصرانية بكل طقوسها المعروفة في الكنائس العادية؛ وذلك في منازل عادية مستأجرة من مواطنين موريتانيين في أحياء سكنية في أرجاء مختلفة من المقاطعة المذكورة.
وبنظرة من الخارج إلى هذه المنازل -التي تستخدم ككنائس رسمية- لا يبدو للناظر شيء ملفتا للانتباه؛ إذ لا علامات مميزة تثير الانتباه على الواجهات الخارجية لهذه المنازل (الكنائس) على العكس تماما مما هو موجود في الداخل؛ حيث تظهر الشعارات الكنسية عند البوابة الداخلية للمنزل (الكنيسة) ويوجد ملصق باللغة الانجليزية على بوابة قاعة "الصلاة" يطلب من الداخلين إغلاق هواتفهم المحمولة، وعند الدخول إلى هذه القاعة يجد الإنسان نفسه في كنيسة "رسمية" فكل الآليات المعروفة لممارسة طقوس العبادة في الديانة النصرانية موجودة؛ بدءا بالصليب، ومرورا بالأناجيل، وكتب الوعظ النصرانية.. وانتهاء بالآلات الأساسية للأوركسترا (الموسيقى الدينية الضرورية بموازاة القداس).
وحسب المعلومات التي حصلنا عليها فإن هذه الكنائس الخمس تدار -بمجملها- من طرف رجال دين من جنسيات إفريقية (حصلت "السفير" على أسمائهم بالتفصيل) فيما أكدت مصادر خاصة لـ"السفير" أن منظمات تنصيرية دولية معروفة على الساحة في بلادنا ترعى هذه الكنائس بطريقة مباشرة، وتصرف عليها -وعلى القائمين عليها- أموالا طائلة.
وكانت "السفير" قد توصلت من مصادر خاصة إلى معلومات تفيد بوجود نشاط تنصيري محموم ومتصاعد بشكل ملفت في بعض مقاطعات العاصمة انواكشوط؛ وبخاصة في مقاطعة السبخة التي يختلط فيها العديد من الأعراق والجنسيات الإفريقية الوافدة من بعض دول المنطقة؛ مما استدعى التحقيق في الموضوع بمهنية وموضوعية، والعمل من أجل الحصول على معلومات دقيقة حول ما يجري على أرض الواقع؛ بعيدا عن المزايدات والتضخيم الإعلامي.
المهمة الصعبة
عندما قررت "السفير" إجراء تحقيق حول النشاط التنصيري في مقاطعة السبخة كانت المهمة تبدو صعبة للغاية؛ إذ يفترض أن يكون التحقيق المطلوب بمثابة اختراق لأجهزة التنصير في البلد، وهي الأجهزة المدربة تدريبا علميا مركزا، والمعروفة عادة بأنها تَخْتَرِق ولا تُخْتَرَق.
كانت المهمة -إذن- في غاية الصعوبة؛ ولكنها لم تكن مستحيلة.. فالصحفي حين ينزل إلى الميدان يكون بإمكانه أن يخترق كل الحجب بحاسته الصحفية، وأن يتخطى كل الحواجز بطرقه المهنية حتى ينفذ إلى الخبر وإلى المعلومة التي يبحث عنها؛ مهما كانت درجة التعتيم، ومهما بلغت دقة إحكام إغلاق الأبواب.
هذا التحقيق مكن من الحصول على معلومات، ووثائق، وأشرطة صوتية، وأشرطة فيديو.. فضلا عن التقاط صور حية في الميدان.
حقائق مثيرة
منذ العثور على رأس الخيط في الموضوع كان واضحا أن التحقيق سيأخذ مجرى أقرب إلى المجازفة منه إلى مجرد ريبورتاج صحفي عادي.. ولم يكن هناك بدٌ من الاستمرار في التحقيق بنفس الطريقة على الرغم من كثرة المزالق والمخاطر والأشواك التي تحف هذا الطريق.
كانت أول معلومة عن وجود كنيسة في منزل عادي مطل على شارع رسمي قبالة "گراج سونمكس" من مصادرنا الخاصة كافية للانطلاق في إنجاز هذا التحقيق، وفقا لواجب الرسالة الإعلامية المهنية الملتزمة التي تتبناها "السفير".
وصلنا إلى عين المكان ولم يكن هناك أي شيء يثير الانتباه في الواجهة الخارجية للمنزل موضع الشبهة، رغم تأكيد العديد من الجيران وسائقي "القالبات" المتواجدين أمام المنزل المذكور على مدار الأسبوع وطيلة ساعات النهار، أنه لم يعد لدى أي منهم أدنى شك في أن ذلك المنزل يستخدم كنيسة تقام فيها كل الطقوس الكنسية المعروفة كل أسبوع؛ وذلك بناء على مشاهداتهم وملاحظاتهم حول التصرفات المريبة للمترددين على المكان طيلة ثمانية شهور خلت.
الدلائل كانت واضحة، والقرائن تدعو إلى مزيد من التأكد.. "عشرات من الشباب والشابات من جنسيات إفريقية مختلفة يتوافدون على هذا المكان جماعات وفرادى؛ وذلك -فقط- يوم الأحد من كل أسبوع.. الملامح الظاهرة على الجميع توحي بأن هناك هدفا موحدا.. الكل في غاية الأناقة، والملابس ليست محتشمة جدا.. ولا يطول الانتظار كثيرا حتى تسمع بعض "الأناشيد المسيحية" ثم تقرع الدفوف، وتعلو الأصوات شيئا فشيئا.. ولا أحد يعرف ماذا يجري في الداخل". على هذا النحو تواترت القصة من بعض جيران المبنى، كما تواترت لدى بعضهم الآخر على نحو آخر.. "الملامح الظاهرة على كل رواد هذا المكان لا توحي بخير؛ أحيانا نقول إنه ملهى، وأحيانا أخرى نجزم بأنه وكر دعارة، والبعض يقول إنه كنيسة.. والمؤكد أنه مكان مشبوه، والأكثر تأكيدا هو أن من يترددون عليه يمكن أن نحكم عليهم من ملامحهم الخارجية أنهم ليسوا من أهل الخير".
هكذا كانت الصورة تبدو من الخارج كما صورها شهود العيان والجيران؛ وكما بدت لنا أيضا خلال زياراتنا الميدانية؛ وكانت مهمتنا تنحصر بعد ذلك في تقديم صورة من الداخل..
.. وما تخفي الجدران أكبر!
شعور غريب ذلك الذي أحسسته وأنا أتخطى عتبة بوابة كنيسة لأول مرة في حياتي؛ حيث واجهتني لافتة كتب عليها باللغة الانجليزية عبارة "من فضلك، أغلق هاتفك المحمول" وكأن تلك اللافتة كانت تدعوني إلى تمثل المستوى المطلوب من الخشوع والخضوع في هذا المكان "المقدس".
لا شيء هنا يدعو إلى الشك في ماهية المكان.. قاعة فسيحة تغص بكراسي بلاستيكية بيضاء، منصة مفروشة ببساط أحمر، وعلى قلب المنصة يقع "منبر" يتوسطه صليب معد من ملصق قطني أبيض اللون.. على الجانب الأيسر من المنصة دفوف، وآلة "ابيانو" وآلات موسيقية مختلفة لم أتمكن من معرفة أسمائها كاملة نظرا لضعف ثقافتي في المجال.. بينما توجد على الجانب الأيمن من المنصة ثلاث مقاعد فاخرة.. وأمام المنصة تنتصب اسطوانة ضخمة من الاسمنت وضعت إلى جنبها نحو عشر نسخ مختلفة من "الإنجيل" باللغة الانجليزية.. ووراء المنصة ستائر قطنية فاخرة حمراء اللون تغطي الجدار بصورة كاملة، ومكتوب عليها بألوان زاهية وببنط عريض عبارة "Fresh Fire" (أي "النار الباردة") وهي العبارة نفسها المكتوبة أيضا بخط اليد على الصفحات الأولى من كل نسخ "الإنجيل" الموجودة داخل القاعة.
.. وما ذا بعد؟..
هي إذن كنيسة كاثوليكية، وهي موجودة هنا منذ نحو 8 شهور، ويرتادها مواطنون من جنسيات إفريقية مختلفة لإقامة الشعائر المسيحية، تحت إشراف أسقف الكنيسة النيجيري الجنسية المسمى "مارتين".. وهي -وإن كانت الكنيسة الأولى التي عثرنا عليها في إطار هذا التحقيق- إلا أنها من أحدث الكنائس نشأة في هذه المقاطعة، كما سيتضح..
- فقبلها.. ومنذ أزيد من ثلاث سنوات تقريبا -حسب تقديرات سكان الحي- توجد كنيسة مشابهة بالقرب من "گراج مالي" من ناحية الشمال، ويسمى أسقفها "باتريك آگبون" وهو نيجيري الجنسية.. وتقع هذه الكنيسة في منزل عادي من طابقين مطل على شارع كبير، ولا يختلف مظهرها الداخلي كثيرا عن الأولى.
- وقبلها كذلك.. منذ ما يقارب ثلاث سنوات -حسب تقديرات الجيران دائما- توجد كنيسة على بعد نحو أقل من 200 متر من هذه الأخيرة من ناحية الجنوب من "گراج مالي" ويدعى أسقفها "ميكائيل آگبون" وهو نيجيري الجنسية.. وتقع في الطابق الأرضي من منزل من طابقين مطل على شارع كبير، وتمتاز هذه بأنها توجد على بعد 40 مترا فقط من جامع كبير! حيث لا يفصل بين المؤسستين الدينيتين سوى منزلين صغيران.
- وقبلها كذلك.. وغير بعيد من الأخيرة في الحي العسكري توجد كنيسة، تتقارب في الشكل الخارجي والداخلي مع نظيراتها السابقات، ويدعى أسقفها "گان گي" وهو غيني الجنسية.
- وقبلها أيضا.. ومنذ أزيد من سنتين، هناك بمواجهة البوابة الشمالية لجامع النور بالسبخة، في المنزل الملاصق لـمبنى "كونكورد گي" من الناحية الجنوبية، توجد كنيسة، وإن كانت تبدو من الخارج أحسن شكلا من نظيراتها السابقات؛ إلا أنها تشترك معهن في نفس المظهر الداخلي تقريبا (انظر الصورة) ويدعى أسقفها "ستيفان گي".
آراء وتعليقات..
يعتبر العديد من المراقبين ونشطاء العمل الخيري الإسلامي في بلادنا أن وجود هذه الكنائس الخمس (مع عدم استبعاد وجود غيرها) في هذه المقاطعة الصغيرة التي لا تتعدى رقعتها الجغرافية نحو 9 كيلومترات مربعة، مؤشرا واضحا على حجم العمل "التنصيري" الذي يستهدف البلد عموما، وهذه المقاطعة على وجه الخصوص. ويرى هؤلاء أن "المنظمات التنصيرية" في البلاد تستهدف سكان هذه المقاطعة بتركيز شديد؛ حيث تستغل هذه المنظمات الظروف المعيشية لسكان هذه المقاطعة الذين يعاني السواد الأعظم منهم من تدهور الأوضاع المعيشية، وانتشار الأوبئة والأمراض.. مما يجعل الباب مفتوحا على مصراعيه أمام "المنظمات التنصيرية" التي عادة ما تبادر إلى المناطق الفقيرة والموبوءة لتقديم المساعدات؛ مازجة السم بالدسم! في ظل غياب المنظمات الخيرية الإسلامية بعد أن تم حظر أنشطتها من طرف السلطات الموريتانية في السنوات الأخيرة.
وحسب العديد من الآراء التي استطلعناها حول الموضوع فإن "وقوف كل الجهات الإسلامية المختصة خارج دائرة المعني، وسكوت الأجهزة الأمنية، والسلطات السياسية، والإدارية في المقاطعة.. أمام هذا الوجود الكنسي الضخم الذي لا تحتمله الكثافة السكانية للمقاطعة، ولا نسبة المسيحيين الأجانب فيها.. كان أمرا يدعو إلى الدهشة و الاستغراب".
وذهبت آراء أخرى إلى اعتبار كل هذا الوجود الكنسي -غير المبرر- أمرا استفزازيا لمشاعر شعب مسلم مائة في المائة؛ بينما طالب بعض من شملهم الاستطلاع بإجراء تحقيق حول الموضوع، وتحديد من تقع عليهم المسؤولية.
من المسؤول؟..
هناك حقيقة لا يمكن تجاوزها في نطاق هذا التحقيق، وهي أن الكنائس الخمس المذكورة لا تمتلك أي منها ترخيصا رسميا؛ وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول مغزى تغاضي الأجهزة الأمنية -على امتداد سنوات- عن هذه الكنائس التي تشهد كل واحدة منها أسبوعيا تجمع عشرات الأشخاص؛ بينما تصر هذه الأجهزة على التقيد بالقانون حينما يتعلق الأمر مثلا باجتماع عشرة أشخاص على المدائح النبوية من دون ترخيص رسمي! وهو الشيء الذي صرح المسؤول الإداري الأول في المقاطعة لـ "السفير" بأنه "ممنوع قانونا" كما أنه يمنع -قانونا- بناء أي مسجد دون الحصول على ترخيص من السلطات الإدارية ومن الوزارة المكلفة بالشؤون الإسلامية.
الأمر هنا يتعلق بالحفاظ على النظام العام، وسيادة الدولة، واحترام القانون.. ولا يعني أبدا تقليص ممارسة الشعائر الدينية لغير المسلمين الذين يمتلكون الحرية الكاملة في ممارسة شعائرهم الدينية في الكنيسة الرسمية الموجودة في قلب العاصمة انواكشوط منذ ستينات القرن المنصرم.
ولعل الشيء المثير للاستغراب -حقيقة- هو كون الوزارة المكلفة بالشؤون الإسلامية لم تعد لديها أية إستراتيجية ولا أي دور في مواجهة حملات التنصير المستفحلة في بلادنا؛ وحتى أنه لم يكن لديها أي تصور حول واقع التنصير في البلاد.
مدير التوجيه الإسلامي الذي فوجئ بهذا الوجود الكنسي حينما طلبنا منه تعليقا حوله -بوصفه المسؤول المختص بالشؤون بالإسلامية بالوزارة- قال لنا بوضوح وصراحة: "إن أول حديث يدور في الوزارة حول موضوع التنصير هو هذا الحديث الذي نتبادله معكم الآن". ونفى المدير أن تكون لدى الوزارة أية معلومات عن أية أنشطة تنصيرية في بلادنا؛ مؤكدا أن "موريتانيا بلد مسلم 100 %" وأن "إحداث كنيسة في البلاد الإسلامية ممنوع إجماعا" حسب قوله.
تحقيق من إعداد الزميل اسحاق ولد المختار فك الله اسره.
السفير العدد رقم 308
بتاريخ: 24 مايو 2006
المصدر: موقع السفير الإلكتروني