تواصل فاتورة وارداتنا من التمور الإرتفاع. رغم أن الحكومة وضعت سنة 2015 خطة عشرية لتحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه المادة بنسبة 120%.
فما هي العوائق التي تحول دون تحقيق تطلعات الموريتانيين، في الانتقال من مرحلة الاستيراد الشره إلى التصدير النشط ؟ وما موقع موريتانيا بين دول شمال إفريقيا في مجال زراعة النخيل، الذي عرفته البلاد بين القرنين السابع والعاشر الميلاديين ؟
تقول دراسة أعدها الباحثان محمد كنيتا، وسلفي دولبو، عن الواحات في موريتانيا، إن نحو نصف النخيل في البلاد، زادت أعماره على سبعين سنة، وإن أغلب أصنافه، إما رديئة أو متوسطة.
وهذا يعني أن نصف النخيل في واحاتنا وصل إلى ضعف عمره الإقتصادي.
فالقاعدة المتبعة في الولايات المتحدة، هي زراعة فسائل جديدة في المسافات البينية، في مزرعة النخيل بمجرد أن يصل عمر المزرعة خمسا وثلاثين سنة، على أن يتم قطع النخيل القديم بعد بلوغ الفسائل الجديدة خمس سنوات، لمنع تراجع محصول المزرعة بسبب شيخوخة النخيل.
وبما أن موريتانيا تمتلك نحو 2.600.000 نخلة حسب تصريح رسمي لوزير الزراعة، فهذا يعني حاجتها الفورية إلى ما لا يقل عن 1300.000 فسيلة من السلالات العالمية الممتازة، لاستبدال النخيل الذي انتهى عمره الإقتصادي منذ عقود.
وبما أن أغلب أصناف النخيل التي لدينا، إما رديئة أو متوسطة، فإن أي استبدال ينبغي أن يكون من الأصناف العالمية الممتازة، إذا أريد لنزيف الاستيراد أن يتوقف.
فلما ذا نواصل الاقتراض الخارجي، لإقامة واحات نخيل رديء أو متوسط، ونسميها نموذجية، خاصة أن المختصين مجمعون على أن تكاليف خدمة النخلة الرديئة، لا تختلف عن تكاليف مثيلتها الممتازة، بينما العائد المادي للرديئة لا يصل إلى نصف عشر العائد المادي من الممتازة ؟
(لا تتجاوز قيمة المحصول السنوي لنخلة من صنف (تنتركل) المحلي، ثلاثين ألف أوقية، بينما تصل قيمة محصول نخلة من صنف (برحي) العالمي، إلى نحو 1.200.000 ألف أوقية).
هذا مع أن مشروع الواحات يرتكب أكبر خطإ، عند إقامة هذه الواحات المسماة (نموذجية)، ذات النخيل الرديء أو المتوسط.
ذلك أن المناهج العلمية تجمع على أن أول إجراء يتم القيام به، قبل اتخاذ قرار بصلاحية، أو عدم صلاحية أرض ما لزراعة أشجار الفاكهة عموما، والنخيل خصوصا، هو سبر طبقات التربة السفلية، للتحقق من عدم وجود طبقات صماء (صخرية، أو طينية، أو حصوية)، تخنق الجذور، وتقضي على النخيل في مراحل لاحقة. وهو أمر مفقود نهائيا في الإجراءات المتبعة لإقامة الواحات، مما يعني أن بعض الواحات التي أقيمت بقروض، قد لا يكون لها مستقبل اقتصادي على الإطلاق.
ويبدو أن وزارة الزراعة والسيادة الغذائية (المفقودة)، انتبهت أخيرا إلى غياب أصناف النخيل العالمية في واحاتنا، مثل برحي، ومجهول، فاستوردت من الخارج عشرة آلاف شتلة من هذين الصنفين. لكن نحو نصفها مات عند الزراعة، بسبب جملة من الأخطاء، لعل من أهمها استلام الشتلات قبل انتهاء مرحلة الأقلمة داخل المختبر. وهي الآن بصدد استلام عشرة آلاف أخرى من الصنفين، نرجو ألا يكون مصيرها كسابقتها.
ويحق لنا أن نسأل حكومتنا، السريعة الخطى عادة إلى الاستيراد، والبطيئة الخطى إلى الإنتاج المحلي، عن المانع من تأسيس مختبر لزراعة الأنسجة، لا تقل طاقته عن نصف مليون شتلة من السلالات العالمية، لتحقيق قفزة في إنتاجنا كما وكيفا ؟
إن انخفاض سقف طموح مسؤولينا يمثل أبرز مشكلات قطاعنا الزراعي. فهم مثلا، يكتفون بالحديث عن مختبر أطار " المخصي "، بسبب انعدام الوسائل المادية البشرية، ويفاخرون بتوزيع نحو ثلاثة آلاف شتلة من إنتاجه على المزارعين. (وما ذا تغني دار أبي سفيان عن قريش ؟).
ولا تقتصر المآخذ في الواحات الجديدة على عدم سبر الطبقات السفلية للتربة، وتواضع أصناف نخيلها، وإنما تتجاوز ذلك إلى سيطرة المحاباة في توزيعها، مما جعلها دولة بين الأغنياء من الوجهاء والسياسيين، وأصحاب النفوذ، برغم حديث الوزارة عن إعطاء الأولوية فيها للطبقات الهشة.
ومراجعة سريعة لقوائم أماكن هذه الواحات، بحثا عن النصيب المفترض لآدوابه مثلا، كفيلة بتعرية الخلل المتعلق بانعدام العدالة في التوزيع.
ويشجع مشروع الواحات المزارعين على زراعة الخضروات في المسافات البينية، دون احترام لمساحة التغذية الخاصة بالنخلة، والبالغة، على الأقل، نحو أربعة أمتار من كل جهة. وهذا غير مسموح به علميا، إلا خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر النخلة. أما بعد ذلك، فهو أمر منصوص على منعه. ذلك أن الخضروات مجهدة للتربة، وتفقر مساحة التغذية الخاصة بالنخلة.
كما أن واحاتنا يغيب عنها قدر كبير من المعاملات الفنية، المعروفة كالتسميد، والخف، والمكافحة المنتظمة للآفات، بالإضافة إلى عدم انتظام الري في أغلبها.
ويقول كتاب عن مشاكل الزراعة في إفريقيا، صادر عن الأكاديمية الأمريكية للعلوم، إن أبرز ما يهدد واحات النخيل في موريتانيا، هو الحشرة القشرية، المعروفة محليا ب (ارميده).
والحشرة القشرية مرض شائع في مناطق زراعة النخيل بالعالم، وعلاجه بالمبيدات المتوفرة في أسواقنا، ميسور ومضمون النتائج.
كما أنه يعالج بالمكافحة الحيوية، عن طريق إطلاق حشرة تتغذى على الحشرة القشرية، وذلك في الواحات الموبوءة.
وقد أثبتت هذه المكافحة الحيوية نجاحا في الواحات الموريتانية، التي جربت فيها، خلال العقود الأخيرة.
ولكن، برغم سهولة مكافحة الحشرة القشرية، لا تزال تهدد بجدية واحاتنا، برغم القروض الكثيرة التي نأخذها من أجل صيانة هذه الواحات وتطويرها، وهو ما يعكس خللا في سياساتنا الواحاتية.
وفي مقابل الإهمال الذي تعانيه الواحات في موريتانيا، تندفع جميع دول شمال إفريقيا في برامج متسارعة، لمضاعفة إنتاجها من التمور، خاصة الأصناف الفاخرة.
فالجزائر قررت اعتبار زراعة النخيل من الزراعات الإستراتيجية. وقد أوصلت ثروتها إلى نحو 20.000.000 نخلة، أنتجت 1.700.000 طن في الموسم الأخير، وهي تصدر التمور إلى أكثر من سبعين دولة، بقيمة سنوية تصل إلى 250.000.000 دولار.
أما المغرب فقد أطلق برنامجا لزراعة 5.000.000 نخلة بحلول 2030، لمضاعفة صادراته من التمور نحو عشرين مرة، من 3.600 طن، إلى 70.000 طنا. وهو ينتج نحو 137.000 طن من ستة ملايين نخلة.
وتحتل مصر المرتبة الأولى عالميا بإنتاج يبلغ 1.730.000 طن من نحو 21.000.000 نخلة.
وقد أطلقت منذ سنوات برنامجا لزراعة 5.000.000 نخلة، كلها من السلالتين الأعلى ثمارا، مجهول، وبرحي، وذلك بهدف مضاعفة صادراتها، التي تزود بها ستين دولة.
هذا بينما يصل إنتاج تونس من التمور إلى 369.000 طن، من نحو 6.000.000 نخلة. وقد بلغت صادراتها في موسم 2023-2024 أكثر من 214.000.000 دولار.
أما ليبيا فيبلغ إنتاجها من التمور 188.000 طن، م نحو 10.000.000 نخلة.
ويوضح الجدول التالي ضآلة إنتاج موريتانيا من التمور، مقارنة بدول شمال إفريقيا، وذلك اعتمادا على أرقام منظمة (الفاو) لسنة 2022.
الوحدة الحسابية: ألف طن
الدولة الجزائر مصر تونس ليبيا المغرب موريتانيا
الإنتاج 1.240 1.730 369 187.8 137.3 22.1
نسبة إنتاج موريتانيا إلى إنتاج كل دولة على حدة 1.7% 1.2% 5.9% 11.7% 16%
وتجمع موريتانيا إلى ضآلة الإنتاج، الضعف المزري في الإنتاجية، التي لا تتجاوز 8.5 كيلوغرام للنخلة، إذا ما وزعنا إنتاجها المشار إليه أعلاه، على عدد نخيلها الذي أعلن وزير الزراعة مؤخرا، أنه يصل إلى 2.6 مليون نخلة.
هذا مع العلم أن المعدل العام لإنتاج نخلة دقلة نور، يصل إلى 150 كيلوغراما في تونس، و300 كيلوغرام في الولايات المتحدة.
وفي الأخير لا يمكن تحقيق نهضة حقيقية في إنتاجنا من التمور، إلا بإقامة مختبر لزراعة الأنسجة، ذي طاقة عالية، مع التركيز على أصناف النخيل العالمية، التي تسهل إيقاف نزيف وارداتنا من التمور، مثل برحي، ومجهول، ودقلة نور.
هذا مع العلم بأن تكلفة المختبر المذكور في المتناول، حيث أنشأت الحكومة المغربية سنة 2011 مختبرا كبيرا لزراعة أنسجة النخيل، مزودا بأحدث تقنية وأعلاها كلفة، مع كامل ملحقاته، وذلك بمبلغ لا يزيد على واحد وثلاثين مليون درهم مغربي (نحو 1.271.000.000 أوقية قديمة)، وهو ما لا يتجاوز تكلفة تعبيد عشرة كيلومترات من برنامجنا السنوي للطرق.
أليس منكم رجل رشيد ؟
بقلم: يحيي بن بـيـبه
رئيس رابطة التطوير والتنويع الزراعي
Beibeyahya@gmail.com