قراءة فنية وتوضيحات سريعة لتقرير محكمة الحسابات

جمعة, 17/10/2025 - 11:33

تُجسِّد محكمة الحسابات التعبير الأرقى عن إرادة الدولة في ضبط ومراقبة المال العام. ذلك أنها رقيب دستوري ذو طبيعة مزدوجة: قضائية حين تبتّ في الحسابات وتقرِّر المسؤوليات، ورقابية حين تدقّق في التسيير وتحلّل المخاطر، وتقييمية حين تقيس نجاعة السياسات العمومية وفاعليتها. وبهذه الأدوار المتعددة، لا تكتفي المحكمة برصد الانحرافات، بل تساهم في بناء عقل مؤسسي يوازن بين الشرعية القانونية والفعالية الاقتصادية.

 

وقد ازدادت أهمية دور المحكمة في ضوء التزامات موريتانيا الدولية في مجال الحكامة الرشيدة، سواء عبر انخراطها في المنظمات المهنية العليا للأجهزة الرقابية (INTOSAI – AFROSAI – ARABOSAI – CREFIAF)، أو التزاماتها بـ الاتفاقيات والمبادرات الدولية الأخرى في مجال الشفافية ومكافحة الفساد (UNCAC – EITI – OECD)، إضافة إلى خضوعها لتقييمات المؤسسات المالية الدولية (World Bank – IMF) ومؤشر مدركات الفساد (CPI).  وهو ما جعل من المحكمة فاعلاً أساسياً في مواءمة الممارسات الوطنية في مجال التسيير العمومي مع المعايير العالمية.

 

بناءً على ذلك، لا يعد التقرير السنوي للمحكمة مجرد وثيقة عابرة، بل مرآة لمدى نضج التجربة الرقابية في البلاد، ومنصة لإطلاق إصلاحات إدارية ومالية تربط أداء الدولة بتطلعات المواطنين وبالتزاماتها الدولية. ذلك أنّه يشكل قاعدة صلبة للنقد الذاتي والتطوير المؤسسي المستمر.

 

ومن هذا المنطلق، تأتي هذه القراءة الفنية للتقرير في إطار تثمين المنجز واستكشاف مجالات التطوير، مقتصرة على الجانب الفني الصرف، التزامًا بواجب التحفّظ، مع ترك التفاعل مع ما يثيره التقرير من مسؤوليات وردود فعل للمعنيين به؛ صناع القرار، والجهات المعنية، والرأي العام.

 

أولا: نظرة سريعة حول إمكانات المحكمة ومسؤولياتها

إنّ فهم القيمة الحقيقية لعمل المحكمة يقتضي النظر أولًا إلى معادلة التوازن بين ما تتيحه لها إمكاناتها الذاتية وما تتحمّله إزاء ذلك من مسؤوليات، ذلك أن تحليل هذا الجانب يُبرز حجم تحديات المحكمة ويعكس مكانتها كرقيب دستوري طموح، يُمثل رافعة أساسية في منظومة الحكامة الوطنية.

 

على الصعيد الهيكلي:

تتألف المحكمة عملياً من ثلاث غرف رئيسية:

- غرفة المالية العامة

- غرفة المؤسسات العمومية

- غرفة المفوضيات والسلطات والوكالات ومشاريع الاستثمار العمومية

 

على صعيد الموارد البشرية خلال الفترة (2022 – 2023):

يُقدَّر مجموع عناصر المحكمة بنحو 40 عضوًا.

وبعد احتساب الطاقم الإداري، والمُعارين، والمُعيّنين في مناصب أخرى، يقدر عدد المدققين الممارسين فعليًا بحوالي 20 عنصرًا.

(مع الإشارة من باب الأمانة، إلى أن العدد تقريبي بناء على استنتاجات شخصية وليس معطى موثّقاً مقدماً على سبيل الدقة).

 

في المقابل، تشمل أهداف المحكمة ما يلي:

- حماية الأموال العمومية

- تحسين أساليب التسيير

- عقلنة العمل الإداري

- تقييم السياسات العمومية

 

أما نطاق مسؤولياتها الرقابية فيشمل البنيات القطاعية والمؤسسية التالية:

- 29 قطاعًا وزاريًا (أي عملياً عشرات الإدارات المركزية والجهوية)؛

174 -  مؤسسة عمومية موزّعة على ما يلي: (105 مؤسسة ذات طابع إداري (EPA)؛ و27 ذات طابع تجاري وصناعي (EPIC)؛ و16 شركة وطنية (SN)؛ و11 شركة اقتصاد مختلط (SEM)؛ و16 وضعيات خاصة (SP).

- إضافة إلى المندوبيات والوكالات ومشاريع الاستثمار العمومي.

 

وبدون الحاجة إلى تفكير عميق، يتضح بكل موضوعية وتجرّد، أن أي عمل رقابي تُنجزه المحكمة في ظل هذا التفاوت الكبير بين الوسائل المتاحة وضخامة المتطلبات، يُعدّ جهدًا بالغ القيمة، يعكس مهنية عالية، وإرادة رقابية جديرة بالإشادة والتقدير.

 

ثانيا: ملامح الجودة في تقرير المحكمة

على الصعيد الفني، يعكس التقرير مستوى رفيعًا من الجودة والمهنية، تجلى واضحا في الأبعاد التالية:

- الجرأة المؤسسية في معالجة الملفات الحساسة وكشف الاختلالات دون أي مجاملة أو تحامل، مما يعكس نزاهة التقييم واستقلالية الرأي؛

- الشمولية الرقابية من خلال تغطية الرقابة المالية، رقابة الأداء، ورقابة الامتثال، بما يوضح التزام المحكمة بالمعايير الدولية وأفضل الممارسات المهنية؛

- احترام مبدأ المواجهة بإدراج ردود الجهات الخاضعة للرقابة والتعقيب عليها، ما يعزز المهنية والحياد ويضفي ثقلًا تحليليًا على التقرير،

- كشف أوجه الخلل البنيوي في المنظومة المالية (ضعف التنسيق، غياب الضبط، سوء تنفيذ المشاريع)، على نحو يعكس فهما عميقًا لجوهر الإشكالات؛

- تحليل الوقائع بدل الاكتفاء بالوصف، مع استعراض خلفيات المشكلات بدل التوقف عند نتائجها الظاهرة فقط؛

- إدراج التوصيات لصناع القرار، وحمل الجهات المعنية مسؤولياتها بمهنية عالية. وبهذا يكون التقرير قد نجح في تقديم محتواه كأداة تقييم ورافعة إصلاحية فعالة؛

- واكب التقرير توجهات برنامج رئيس الجمهورية وتطلعات الحكومة في مجال الحكامة الرشيدة، وعزز انسجام الدولة مع التزاماتها الدولية في مجال الشفافية ومكافحة الفساد؛

- على الصعيد الاستراتيجي، ساهم التقرير في تعزيز الذاكرة المؤسسية عبر تتبع الاختلالات وربط الأحداث السابقة بالوضع الحالي؛

- عزز الشفافية بنشر نتائجه، ودعم ثقة المجتمع في مؤسسات الدولة وثقافة المساءلة؛

- قدم التقرير صورة شاملة نسبياً عن المال العام تجمع بين الجوانب المالية والقانونية وتهيئ الأرضية لاتخاذ القرار على أعلى مستوى؛

- أخيرا، نجح التقرير في تنصيب نفسه مرجعا يعتمد عليه في اتخاذ القرار، وبهذا يكون قد عزز مكانة المحكمة كرقيب دستوري وفاعل أساسي في تسريع وتيرة الإصلاح الإداري والمالي؛

 

ثالثا: ملاحظات يمكن تفاديها في التقارير القادمة

تعكس الملاحظات التالية أوجه تحسين منهجية الرقابة ورفع جودة التقرير مستقبلا، وذلك لتحقيق أكبر أثر رقابي ممكن، مع الإقرار بمستوى العمل المنجز والجهود المبذولة في إطار تحسينه.

- غياب نتائج متابعة تنفيذ توصيات التقارير السابقة، ما يجعل الرقابة غير تراكمية ويُضعف أثرها، في حين ينص المعيار (ISSAI 3000) على ضرورة تتبع التوصيات بهدف ضمان الاستمرارية وقياس التحسن المحقق؛

- عدم توضيح خطة العمل والمعايير التي اختيرت على أساسها القطاعات والمؤسسات والملفات التي خضعت للتدقيق، ذلك أن تبيين هذه المحاور يدخل في صميم الشفافية ويغلق الباب أمام التساؤلات حول منطق الانتقاء، ففي هذا الصدد ينص المعيار (ISSAI 300) على تحديد نطاق ومبررات اختيار المهام بهدف ضمان الموضوعية والحياد؛

- غياب تقييم البنيات الهيكلية (Les organigrammes) للقطاعات والمؤسسات المدقَّقة، وذلك لتعميق فهم جذور الاختلالات، تحديدا مدى استجابة البنيات الهيكلية للمهام وانسجامها مع مبدأ الاقتصاد والفعالية والنجاعة، ففي هذا الإطار، يحث المعيار (ISSAI 300 –  مبدأ الاقتصاد والفعالية والنجاعة 3 E) على ضرورة التأكد من أن البناء المؤسسي يدعم الأداء الأمثل؛

- عدم تقييم الموارد البشرية من حيث العدد، والاكتتاب، والمسار، والكفاءة. وهو مبحث حقيق باهتمام الهيئات الرقابية لاعتبارات موضوعية معروفة. فوفق المعيار (ISSAI 300 –) كفاءة الموارد ضروري جدا فحص المقدرات، خصوصا البشرية منها، بهدف ضمان تنفيذ المهام بكفاءة؛

- غياب تحليل الأطر التشريعية والتنظيمية لضمان ربط الرقابة بجذورها التأسيسية، في حين ينص المعيار (ISSAI 100 – البيئة القانونية) على ضرورة تقييم مدى ملاءمة النصوص القانونية بهدف تحديد ما إذا كانت داعمة للحوكمة أو معيقة لها. وهي مناسبة للإشارة إلى الحاجة الملحة لمراجعة المنظومة، وتعزيز التنسيق والتشاور مع المحكمة فيما يتعلق بالنصوص التشريعية والتنظيمية ذات المقتضيات المالية؛

- مزج أنواع الرقابة داخل التقرير دون فصل منهجي بينهما. في حين أن الفصل المنهجي بين رقابة المشروعية، والرقابة المالية، ورقابة الأداء، يسهم في تحديد الهدف بدقة وضمان اتساق المنهجية ووضوح النتائج، إضافةً إلى تسهيل فهم المحتوى من قبل الجمهور. ولهذا ينص المعيار (ISSAI 300) على تحديد أهداف الرقابة مسبقًا؛

- غياب ملخص تنفيذي للتقرير، وهو عنصر جودة ضروري لتسهيل فهم جوهر التقرير وتحديد الأولويات لصانع القرار دون الحاجة لقراءة التفاصيل والتباحث حولها. ولهذا يفرض المعيار (ISSAI 1700) إعداد ملخص واضح ومتكامل؛

- عدم إبراز الجوانب الإيجابية، ذلك أنه يعطي صورة غير متوازنة، في حين أن عرض الممارسات الجيدة إلى جانب الاختلالات يعزز الحياد، ويتيح الاستفادة من النجاحات وتعميمها كنماذج قابلة للتكرار. وفي هذا الإطار ينص المعيار (ISSAI 100) على ضرورة عرض الإيجابيات والسلبيات معًا لضمان الموضوعية؛

- أخيرًا، لا يتيح عدد القطاعات والمؤسسات والمشاريع التي شملها التدقيق (4 قطاعات، 5 مؤسسات/شركات، 2 صناديق، 4 مشاريع) إمكانية تقييم السياسة العمومية على نحو شامل. فعلى الرغم من أنّ هذا الجهد يُعدّ استثنائيا قياسًا بتفاوت الإمكانات المتاحة مع اتساع المسؤوليات الرقابية للمحكمة، إلا أنّ مستوى التغطية يجعل النتائج أقرب إلى تقييمات جزئية أو حالات نموذجية (cas d’étude)، بدل أن يكون قراءة شمولية لأداء السياسات العمومية. ولذلك، فإن بلوغ مستوى التقييم الاستراتيجي يتطلب توسيع نطاق العيّنة، واعتماد مقاربة دورية وتراكمية في اختيار الملفات المدققة.

 

وكخلاصة تقييمية، أظهر تقرير المحكمة نضجًا مؤسسيًا وجرأة مهنية حقيقان بالإشادة، مؤكّدًا أن المحكمة ليست جهازًا يرصد الأخطاء فحسب، بل عقلًا وطنيًا يقوّم، ويقترح، ويواكب، ويؤسّس لثقافة حوكمة حديثة تتجاوز منطق التدقيق إلى صناعة الإصلاح.

 

وبما أنّ الحكامة الرشيدة ليست شعارًا، بل مسارًا تراكميًا، فإنّ دعم هذا الجهد المؤسسي يقتضي التفاعل المسؤول مع خلاصاته، وتفعيل توصياته، وتزويده بالوسائل اللازمة لتوسيع أثره. ذلك أنّ الرقابة الفاعلة هي الضمانة الأولى لثقة المواطن، ومفتاح استدامة السياسات، وجسر العبور نحو دولة أكثر شفافية ونجاعة وعدالة.

 

ومن موقع الوعي بأهمية هذا الدور، تأتي هذه القراءة كتعبير صادق عن إيمان راسخ بدور الرقابة كشريك استراتيجي في بناء دولة حديثة تُدار بالمعايير لا الأمزجة.

 

وفي هذا السياق، تترجم توجيهات رئيس الجمهورية وتعليمات الوزير الأول إرادة واضحة نحو تحويل التقرير من وثيقة قراءة إلى أداة تنفيذية فعالة، ومن تقييم للماضي إلى خطة استراتيجية للمستقبل. وهذا التوجه الوطني الواعي يستدعي دعم الجهود المبذولة والإشادة بها، ذلك لأثره الإيجابي في تعزيز الشفافية، وضمان نجاعة السياسات، وترسيخ ثقة المواطن في مؤسسات الدولة.

 

ـــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

- القانون النظامي رقم 2018 ـ 032 الصادر بتاريخ 20 يوليو 2018 المتعلق بمحكمة الحسابات؛

- المرسوم رقم 2022 ـ 107 المحدد طرق تطبيق القانون النظامي رقم 2018 ـ 032 الصادر بتاريخ 20 يوليو 2018 المتعلق بمحكمة الحسابات؛

- تقرير المؤسسات العمومية في موريتانيا 2022؛

- تقرير محكمة الحسابات السنوي (2022 ـ 2023)؛

- الإطار الدولي للمعايير المهنية للأجهزة العليا للرقابة (ISSAI) 2016-2020:

 ISSAI 100 – المبادئ الأساسية للرقابة المالية العامة (تحديث 2016)

ISSAI 300 – رقابة الأداء (تحديث 2019)

ISSAI 3000 – التوجيهات التفصيلية لرقابة الأداء (تحديث 2019)

ISSAI 1700 – تكوين وإعداد الرأي الرقابي والتقرير، الملخص التنفيذي (تحديث 2020)

- توجيهات رئيس الجمهورية وتعليمات الوزير الأول: https://www.facebook.com/share/p/1ZWWXnq3X8/?mibextid=wwXIfr