دعنا نجيب معا أيها القارئ الموريتاني الكريم على السؤال الآتي :
" هل يمكن لمؤرخ في عام 2070 أن يعتمد على صحافتنا الحالية كمصدر تاريخي موثوق؟ "
إذا كانت إجابتك بنعم، فأدعوك للتوقف عن قراءة هذا المقال. أما إذا كنت تشك في ذلك أو تجيب بالنفي، فما هي المشكلة في رأيك؟ هل هي في الصحافة نفسها؟ أم في المجتمع؟ أم في الدولة؟
عند الحديث عن الصحافة، يلاحظ المرء أن غالبية الممارسين عندنا ينقصهم التأهيل اللازم، إذ لم يتلقوا تعليما متخصصاً في الإعلام أو الصحافة، كما أنهم لا يحرصون على التكوين المستمر أو الدورات التدريبية. والأكثر إثارة للقلق من ذلك عدم التزامهم بالمصداقية في نشر الأخبار، وإهمالهم البحث الجاد عن مصادر معلومات موثوقة. وعند تناول قضايا الرأي العام، يجد معظم صحفيينا أنفسهم أسرى لاعتبارات قبلية أو عائلية أو شخصية، مما يؤثر على استقلاليتهم وموضوعيتهم. أما تقييمهم للأداء الحكومي، فغالباً ما يتأرجح بين الإفراط في المدح أو القدح، دون تقديم تحليل موضوعي ومتوازن .
مع ذلك، لا يمكن تحميل الصحافة المسؤولية كاملة بمعزل عن المجتمع الموريتاني، الذي يضع الصحفي في مرتبة متأخرة ، هذه النظرة المجتمعية غير المحتفية بالصحفي لها أسباب مختلفة، أولها أن مجتمعنا لا يقرأ في غالبه، وإذا قرأ فإنه ينتقي الأخبار الغريبة والصادمة، ويقبل بشغف على متابعة المساجلات التي مُلئت سبابًا وفجورا بين أدعياء الصحافة، ويتتبع بسادية إقالات الوزراء ومشاكل الأثرياء ومآسي الأحياء الشعبية.
ثمة عاملان آخران يساهمان في عدم احتفاء الموريتانيين بصحافتهم. أولهما، الولع بالشعر الذي يصل حد اعتبار كاتب النثر مواطنًا من الدرجة الثانية في جمهورية الأدب والثقافة. وثانيهما، أن الصحافة بمفهومها الحديث لم تُعرف في العالم العربي والإسلامي إلا في العصر العثماني، ومن ثمّ لم تصل إلى موريتانيا على الأرجح إلا مع الاستعمار، مما جعلها ترتبط في أذهان البعض بالتجسس والخوض في أعراض الناس.
وإذا انتقلنا إلى الدولة، فلا يمكن إغفال مسؤوليتها عن الوضع الراهن للصحافة. فالدولة التي أعلنت عن حرية الصحافة، ساهمت – بقصد أو بغير قصد – في إضعافها، عندما سمحت بدخول عناصر غير مؤهلة إلى هذا المجال، ممّن يمتهنون التلميع مقابل المال. وهكذا، صار لكل وزير أو مدير "فيلق" من الصحفيين، ولكل رجل أعمال أو شيخ قبيلة "صحافة" خاصة به. ولم يقف تقصير الدولة عند حد السماح بهذا التمييع، بل تعداه إلى محدودية الدعم و إهمال التكوين،
ثم استحال التقصير تضييقا فمورست على الصحافيين ضغوط وصلت إلى حد السجن.
قد تسألني صديقي القارئ - وحُق لك أن تسأل - عن الشق الثاني من العنوان ؟
لا أعتقد، على الأقل في الوقت الراهن، أننا وصلنا إلى مرحلة "الطابور الخامس". لكن إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فسنشهد قريبًا بعض مدعي الصحافة يعملون لصالح جهات خارجية، وسيظهر صحافة يروجون للجهوية والعنصرية، وسيتم تلغيم الحقل الصحفي بنشر الأكاذيب والشائعات، وتلميع المفسدين، وتشويه صورة الكفاءات النزيهة. ولك أن تتخيل المزيد من العواقب الوخيمة لغياب الحقيقة.
لا أرغب في الكتابة عن مشكلة دون تقديم مقترحات وحلول، وقناعة مني بأن الوضع لم يخرج بعد عن السيطرة ، فإني أرى أن الحلول يجب أن تكون على ثلاثة مستويات: أولًا، على مستوى الدولة، التي يجب أن تُعنى بتأهيل وتكوين الكوادر العاملة في مجال الصحافة، وتوفير ضمانات لحماية الصحفيين الذين يقومون بتحقيقات استقصائية تكشف عن الفساد والظلم والمحسوبية، بالإضافة إلى زيادة الدعم المخصص للصحافة والشفافية في توزيعه، وإنشاء معهد للصحافة وكلية للإعلام في جامعة نواكشوط .
أما المستوى الثاني، فيتمثل في المجتمع المدني، الذي يتعين عليه القيام بجهود من أهمها : التوعية بأهمية العمل الصحفي في بناء المجتمعات الحديثة، والحث على ضرورة القراءة، وتحسين الذوق العام، ومحاربة التفاهة. كما يمكن للمجتمع المدني تشجيع الأعمال الصحفية المميزة، من خلال تقديم جائزة سنوية لأفضل تحقيق صحفي استقصائي، على أن تكون الجائزة ذات قيمة مادية ومعنوية معتبرة، وتُمنح وفقًا لمعايير شفافة وواضحة. ومن صميم أدوار المجتمع المدني أيضا، الدفاع بكل الطرق المتاحة عن سجناء الرأي، وخاصة من الصحفيين.
أما المستوى الثالث، فيخص كبار المثقفين والكتاب والمفكرين في هذا البلد، الذين عزفوا عن الكتابة، تاركين المجال لغير أهله، فكان ما كان مما ذكرنا آنفًا. فعلى هؤلاء المبادرة إلى إصلاح ما أفسده غيابهم، وبناء ما تهدم من الوعي، وتدارك ما كاد يختفي من التحليلات العميقة والآراء السديدة. وبعودة هؤلاء إلى الميدان، سيفكر مدعو الصحافة والملمعون بالمقالات ألف مرة قبل مزاحمة العمالقة، فلا يُفتى ومالك في المدينة .
بقلم بابه ولد يعقوب ولد أربيه
مهندس في مجال المياه والصرف الصحي
وتساب : 38422201