رجل الدولة أم رجل القبيلة

جمعة, 31/01/2025 - 12:30

كلاهما كان واليا للعراق في الفترة الأموية ، الأول  فتح السند و الأندلس وأمر بوضع النقاط على الحروف في اللغة العربية أما الثاني فكان جوادا ، شجاعا ، ذا مروءة وحسب .
هكذا روى لنا التاريخ أن الحجاح بن يوسف كان رجل دولة وأن يزيد ابن المهلب سيد الأزد وابن سيدها كان رجل قبيلة .
ولكن ماهو الأساس الذي اعتمدت في هذا التصيف ؟ 
الجواب بسيط حسب رأيي فرجل الدولة هو الذي تبقى أفعاله وقراراته تلامس الحياة اليومية لشعبه ولو بعد قرون من رحيله  ، أما رجل القبيلة فلا يكاد يُذكر إلا في أمسيات التفاخر العكاظية  .
لكل قبيلة في موريتانيا رجالها  الذين تتفاخر بهم كرما وشجاعة ومروءة ، ولكن كم عدد رجال الدولة في التاريخ الموريتاني منذ الإستقلال ؟ 
سأترك لك أيها القارئ الموريتاني المحترم وقتا حتى تتبلور الإجابة في ذهنك وفي انتظار ذلك سأنبهك   إلى ضرورة التميز بين القيم الإيجابية للقبيلة المستمدة من الدين الإسلامي الحنيف وبين النعرات الضارة التي تعيق التقدم. فبينما أدعو  إلى صلة الرحم و أولوية الأقربين بالمعروف ، أرفض بالمقابل  أي شكل من أشكال المحسوبية والفساد الذي يرتبط بالولاء القبلي.
 إن النعرات القبلية التي تدفع بالناس إلى نصرة الظالم على المظلوم، وتؤدي إلى إهدار المال العام، وتوصل الرجل غير المناسب إلى المكان غير المناسب هي عائق كبير أمام بناء دولة حديثة وقوية.
الآن وقد شرحت لك موقفي سأضع قلم الباحث في علم الإجتماع و أستعير قلم المؤرخ ! 
في بداية تسعينيات القرن الماضي ، لعب أصحاب السلطة في موريتانيا بالنار لما أعادوا للقبيلة زخمها المفقود منذ الاستقلال وذلك بدافع غريزة البقاء في الحكم بأي ثمن ، سرعان ما تحولت التشكيلات الحكومية إلى محاصصات قبلية وعرقية و مُيعت المناصب الحساسة لصالح أبناء القبائل المؤثرة، مما أدى إلى تراجع الكفاءة والنزاهة في الإدارة العامة !  سار خلفاء ولد الطايع على نهجه و عاد رجل القبيلة ليصفي حسابه القديم مع رجل الدولة ! 
اليوم وبعد عقود من الديمقراطية القبلية ، بات من الشائع أن نرى وزراء ومدراء يحيطون أنفسهم بأقاربهم وحلفائهم من القبائل المجاورة ، مما يثقل بشكل لافت كاهل ميزانيات المرافق الحساسة التي يديرونها ، ويعيق انسيابية العمل .
 الآن أيضا صار من المتقبل جدا أن يخلف الابن أباه في مصنب القبيلة الحكومي  ، ولم يعد غريبا أبدا أن نسمع فردا من قبيلة معينة يبدي في وسائل التواصل الاجتماعي مثلا عدم رضاه عن نصيب قبيلته من التعديلات الحكومية الجديدة  ، أما تفاخر القبيلة بعدد نوابها في البرلمان فهو مصطلح جديد في قاموس المفاخر البدوية !
لازالت ذاكرتي بين الفينة والأخرى تغيظني بمشهد حدث منذ سنوات قليلة ، ساعتها  شاهدت الجزور والسيارات العابرة للصحراء و الرجال أصحاب العمائم واللحى أمام منزل أحدهم فاستفسرت عن الأمر لأعرف لاحقا أن صاحب المنزل رجل نافذ من قببلة كببرة قد عُزل لتوه بتهمة فساد .
كل ما ذكرت آنفا عن التوغل القبلي في دوائر السلطة مقلق لكن المخيف أكثر هو أن انسحاب رجل الدولة من مكتبه سيترك فراغا كبيرا على كافة الأصعدة وسينتج عنه إذا استمر الحال على حاله 
- لا قدر الله -  ممثلون للوطن في المحافل الدولية  لايعرفون من ابجديات الديبلوماسية إلا كما يعرف النابغة الذبياني عن الذكاء الاصطناعي وسيفاوض نيابة عنا في القضايا الأمنية والاقتصادية الهامة أناس يرضون من الغنيمة بالإياب ، وسيتخذ القرارات الاستراتيجية نيابة عنا أناس يفكرون بمنطق صراعات آبار المياه أيام الجفاف ، وسيدير معاملاتنا اليومية مع الإدارة أناس يتصرفون بعنجهية المستعمر .
 أيها القارئ الموريتاني الطيب المشفق على بلده لا أريد أن أقلقك أكثر إلا أنه من الأمانة تذكيرك بأننا كأي دولة في العالم لنا أعداء يتربصون بنا الدوائر و ينتظرون بفارغ الصبر أن تقودنا القبلية والمحسوبية والحكامة غير الرشيدة إلى حقل ألغام طالما تمنو رؤيتنا ونحن تائهون وسطه .
أما أنتم أيها الجالسون في الصفوف الأمامية من مدرج السلطة فلازال بإمكانكم تدارك الأمر وذلك من خلال الاستثمار في العنصر البشري وإبعاد الوظائف الحساسة والمناصب التي تتطلب خبرة وكفاءة معينة عن المحاصصات القبلية و عن مجاملات المصاهرة ، كما أتجاسر وأطلب من فخامة رئيس الجمهورية ومعالي الوزير الأول  إجراء إحصاء شامل للكفاءات و البدء في التنقيب الجاد عن رجال الدولة الذين يوشكون على الانقراض فهذا التنقيب أجدى وأنفع من التنقيب عن الذهب والغاز .
حفظ الله موريتانيا .
بقلم بابه ولد يعقوب ولد أربيه 
مهندس في مجال المياه والصرف الصحي 
واتساب :  38422201