الحلقة الثانية من صفحة أحمد هارون
توجد مقاربات لمواجهة المعضلات أكثر ذكاء وفائدة من وجهة النظر السياسية.
بسنوات قبل الشاه، لاحظ المختار ولد داداه نذرا في الأفق الملبد بالغيوم، كانت أقل خطرا من الطوفان الذي غرق فيه محمد رضا بهلوي، لكن لم يكن من المعقول أن يترك مصيره معلقا بضربة صدفة ليعيش في قلق وعدم اطمئنان للمستقبل. لقد استهدفته معارضة متنوعة أساسا في صفوف الشباب، تصفه أحيانا بعميل الإمبريالية والاستعمار الجديد، وتارة وكيل شركة المعادن والحديد (ميفارما)، وأحيانا أخرى عدو اللغة العربية وكل ما يرمز إلى الهوية الحضارية في موريتانيا.
وأكثر من ذلك، فقد أحس - والسياسة تحتاج إلى فطنة - أن موريتانيا التقليدية وزعاماتها من الساسة المتمرسين على الخداع، والتي اعتمد عليها لبعض الوقت، قد بدأت تبتعد عنه. هنا وكما هو الحال دائما، فإن الوفاء نادر ومرتبط غالبا بميزان القوة، حاضرا أولا حقا.
تصرف المختار ولد داداه بسرعة، عندما كان لديه ما يكفي من الوقت، مادام ميزان القوة لصالحه ومصداقيته لا تزال كاملة. على كل حال لا أحد يشك في مرونته وذكائه السياسي. يجوز الصراع معه أو معاداته، لكن لا يسعنا إلا الاعتراف بأنه رجل ذو مزايا عالية: يجيد الإقدام والإحجام.
لقد بدأ بتعديل حكومته، رأسا على عقب، وفصل الوزراء الذين لم يعينوا في وظائفهم إلا طبقا لمعيار لعبة التمثيل الجهوي البسيطة. وأحاط نفسه، في نفس الإجراء، بأفضل الكوادر المتوفرين في السوق، وبذلك استعاد مصداقيته. فبدون مصداقية حكومية، لا يستطيع التصرف بشكل نافذ واتخاذ أو تنفيذ قرارات جريئة، كتلك التي تستدعيها الوضعية آنذاك. وبحنكة معتبرة، لم يلزم القادمين الجدد إلى الحكومة بالانتساب للحزب الوحيد، مع أنه مؤسساتي.
القادمون الجدد كانوا إلى ذلك الحد من المنتقدين - حقا لم يكونوا بالنسبة للبعض، محركين - لأن إلزاما من هذا النوع سيسبب لهم حرجا. ساد التفاؤل، هذه الضرورة غير المحسوسة والضرورية للعمل السياسي، ومعها نتيجتها الطبيعية: تزاحم الأفكار الجديدة التي بدونها لا يمكن أن نحدد اتجاهنا. لا توجد رياح مساعدة لمن لا يعرف أين يسير، قالها المفكر الروماني القديم اسنيك.
الخطوة الثانية كانت إصلاح التعليم، من أجل إعطاء اللغة العربية المكانة اللائقة.
الثالثة مراجعة الاتفاقيات المبرمة مع القوة الاستعمارية القديمة، وهي الاتفاقيات التي ولدت مع الاستقلال ولها قيمة رمزية، لأنها تبدو للبعض على أنها حقيقة هذا الاستقلال، الذي ينظر إليه دائما على أنه استقلال داخلي فقط. وكان المناخ في ذلك الزمن مناخا للتقدم والثورة.
وصلت بعض أمواج الثورة الثقافية الصينية وصدى ثورة مايو 1968، بطريقة معينة إلى الصحراء، حيث الناس بطبيعتهم دائما يتطلعون إلى الجديد وهم في الواقع قليلو المحافظة. المختار الذي يعرف حق المعرفة المجتمع الموريتاني، فهم نداء التغيير هذا، وضرورة التجديد تلك.
الخطوة الرابعة مرتبطة بالثالثة وهي: الخروج من منطقة الفرنك الحرة، وإنشاء العملة الوطنية الأوقية.
أما القرار الخامس: فكان الانضمام إلى الجامعة العربية، استجابة لشعور طبيعي، أججته حينها حرب أكتوبر 1973.
وأخيرا، فإن الحدث الكبير الذي توّج سلسلة الإصلاحات والقرارات الجديدة هذه، من أجل تصحيح الوضعية، هو تأميم شركة ميفارما.
زحزح إيجابيا كل واحد من هذه القرارات موقف عدد معين من الناس، من المعارضين أو المواطنين العاديين ورجح الكفة قليلا لصالح النظام، لم تبدأ قضية الصحراء إلا والمختار يتمتع بإجماع حقيقي حوله أكثر المتحمسين له هم المعارضون المتطرفون بالأمس الذين كانوا يقاومونه. إن نوعية حكومته وخصوصا التحكم والرقابة على طاقم التأطير السياسي والإداري هو الذي أتاح له أن يتجاوز بفعالية الآثار القاسية جراء الجفاف 1973.
لم يخش في وقت من الأوقات النازحين بأعداد هائلة من المنمين والمزارعين الذين سلبوا أموالهم وتدفقوا بقضهم وقضيضهم على العاصمة نواكشوط، حتى حلوا بباب الرئاسة وأصبحوا يتزودون بحاجتهم من الماء هناك في أسطل محمولة. لم يخش أن يشكل هؤلاء مصدرا لزعزعة الاستقرار. الكل كان مقتنعا رغم شح الوسائل أنه قام بما في وسعه. خطة طوارئ لا سابقة لها مع فعالية ملحوظة، قد تم وضعها وتنفيذها.
لا يكتفي المختار بالاستماع إلى الحقيقة، بل يبحث عنها ويطلب بإلحاح من بعض الأشخاص المعتبرين عندما يلتقي بهم في مقابلة أن يقولوا له، ليس فحسب وجهة نظرهم بكل صراحة، لكن أيضا ما يقوله الناس عن نظامه وسياساته التي يتبع. ودائما ما يعقد فضلا عن ذلك ملتقيات مفتوحة، وليس من الإفراط القول إن خدم المنازل والرعاة، توجه إليهم بطاقات دعوة لحضورها ويخاطبون الرئيس خلالها بالزميل. وعلى اختلاف القضايا، فإنه لم يتعرض أحد للنبذ عندما يريد التعبير، مهما كانت قسوة لغته أو عدم واقعيته.
تعرض المختار ولد داداه، وهو الكاتب العام للحزب الوحيد ورئيس الجمهورية لأكثر من مرة لمكائد شخصيا خلال هذه الملتقيات دون أن يتبع مرتكبيها بأدنى مضايقة.
فخ الصحراء كان نتيجة مصادفات أخرى لا علاقة لها بإرادة المعني ولا السياسة التي يتبع. ولولا قضية الصحراء لمات المختار ولد داداه السنة الماضية على كرسي الرئاسة، ولما حصل العاشر يوليو من باب أحرى الثاني عشر دجنبر.
الآن، وبعد أن انتقل الرجل إلى العالم الآخر وأصبح في ذمة الله، يمكن البوح بمثل هذه الأشياء للأمانة التاريخية وخصوصا من أجل قيمتها كقدوة. أما السؤال الملح والحيوي اليوم، فهو: كيف نفسر ونفهم أن النظام الحاكم لا يرى ضروريا علاج الوضعية التي نعيش والتي تقلق كل الناس والتي لم تعد تحتاج للتعريف والوصف؟ في أي كمين سقط كي يعفي نفسه من علاج مشاكلنا بل ومشاكله؟
إشاعة سائدة تزكي الفكرة التي تأباها الروح ويرفضها العقل ويفندها المنطق، وهي أن السلطات لا تعترف بوجود أزمة خطيرة وعميقة؟ كيف لا توجد أزمة؟ من فضلكم!
يجب أن لا نغتر ونظن أن حالنا اليوم كحال الصين على الأقل، كما وصفها أندريه مرلوو 1926: الصين ترتعش كصرح خرب، القلق عليه لا يأتي من تهديد أو معارك، بل من وزن ذلك السقف المرتعد.
كيف لا توجد أزمة؟ وهؤلاء المساجين الذين يتعرضون للتعذيب وهؤلاء يتعرضون للاستجواب والمحاكمة وهؤلاء يتعرضون للتهديد وهؤلاء مجوعون وهؤلاء مبعدون وهؤلاء مكرهون على المنفى... ماذا يمثلون؟ أو عن ماذا ينمَّون؟ هؤلاء النسوة اللائي سجنّ من أجل كلمة أو منشور، تحديا لكل تقاليد هذا المجتمع، وقد وضعت إحداهن أو كادت على مكتب مدير السجن، هؤلاء الأطفال المفصولون عن أمهاتهم، هؤلاء الذين يحلمون بالقتل، بالحرق والأخذ بثأرهم، لم يعد لديهم من الإحساس سوى الشعور بالغبن. يريدون الانتقام لا العدالة. وهؤلاء الذين آثروا العنف متربصين بكل بساطة الوقت المناسب، غدا أو بعد غد أو الشهر القادم أو الفصل القادم. وهؤلاء الذين يعتبرون الطرق السياسية السلمية مهزلة متجاوزة، لا علاقة لها بالواقع السياسي المعاش، يعتبرونها مضيعة للوقت، وهؤلاء - وهم كثر- المتضامنون مع الانقلابيين، دون أن يكون لهم سابق معرفة بهم، دون معرفة برامجهم، إذا كانت لديهم برامج أصلا، الذين يقرون طرقهم ووسائلهم دون استثناء. وهؤلاء العامة في الأسواق، في الباصات وسيارات الأجرة، وفي الشارع وهم في اضطراب وحيرة يتساءلون بخيبة أمل حول المستقبل حول ما سنؤول إليه وإلى أين نسير؟ وهذه الديمقراطية المتبجحة التي لا تستطيع فيها الأحزاب المشرعة الدعوة لأبسط احتجاج، كعقد أبسط مهرجان أو تنظيم أبسط مسيرة والتي تصادر فيها الصحافة وتحظر. ودولة القانون هذه التي لا تطبق فيها القوانين على الأقوياء والأغنياء، حيث يذهب أصحاب الرأي حتما إلى السجون، وحيث تجهل قداسة جسم الإنسان. وهذا الاقتصاد الوقف على بعض الأفراد. وهذه الثقة المعدومة في المؤسسات، في الانتخابات، في السياسات المتبعة، والتي لا يقابلها الناس إلا بلي الشفتين، تحديا واحتقارا لكل شيء عدى الشعور بالغبن. كل هذا ألا يكفي في حد ذاته كأعراض لوجود أزمة خطيرة وعميقة؟. أفضل الإرادات الخيرة لا تعرف لهذا علاجا، ولا أحد يعرف ما سيؤدي إليه. وهذه المصداقية التي تتبخر؟
أنا: واسمحوا لي باستعمال (أنا) ولو كانت غير مناسبة، فقد عشت قصة تقضي على هذه المصداقية. حوالي أكثر من سنة بقليل، اعتقلت مع دفالي ولد الشين في نفس الوقت. تم اقتيادنا مع أشخاص آخرين إلى السجن في ذلك اليوم أضيفت حبة جديدة إلى سبحة الفظائع. فهمت بشكل نهائي أن الفرد عندنا لا يمثل مثقال ذرة. إنه فرضية بسيطة لم تراجع، صالحة لأن تداس بالأقدام، مع أني كنت أعرف أن المواطن عندنا لا يتمتع بقيمة فائقة، أكثر من ذلك تعرضت شخصيا للإذلال والحرمان والجوع في السجون، بردها وبعوضها المستبسل والعزلة المؤذية، ليس في غرف، لكن في سجون انفرادية. سنوات مرت من التعذيب والمرض دون طبيب أو دواء، اختلاط مذهل في سجون مكتظة، ملتقى للصوص والمجرمين والقتلة، قلق الفرد الملاحق كي يعلق في المشنقة، لا لشيء إلا ليكون عبرة. لكن في يوم السادس نوفمبر 2003 ذاك عندما قذف بنا أنا ودفالي من المصعد العلوي لسلم الطابق، إلى الطبقة السفلى، فهمت معنى تحلق الكلاب المرسلة في أثر الطريدة من الوحوش، نواجذهم الطويلة، ملامحهم المشئومة، نهمهم إلى الدم وقسوتهم. المهمة اكتملت واستعجالهم على المسك بحصتهم، رأيت هيجان الفرد المشروط، المتحسر على تفويت فرصة تسديد لكمة باليد أو ضربة بالهراوة أو ركلة بالسباط.
الاستخلاص وأخذ العبرة، ليس مرتبطا بالضرورة بأهم حدث في حياة الإنسان، أحيانا توقظه ببساطة صدمة لم تكن منتظرة، أو غير مبررة. بعد كل هذا هل يمكن أن يضحك المرء؟ نعم ضحكت بعد ذلك، وهذه هي الظروف التي أدت إلى ذلك. بعد توقيفنا، سجنا لمدة شهرين، حوكمنا وأدنا من طرف محكمة، في قضية نجهل عنها كل شيء، كل شيء إطلاقا. لم نألف قضيتنا إلا من خلال استجواب الشرطة والقاضي والمحكمة نفسها، عندها عرفنا اسم شيفرتها (اكراب1)، وشيئا فشيئا بعض تفاصيل وأهداف هذا المخطط الرامي على ما يبدو ـ إلى الاستيلاء على السلطة بواسطة الشارع ـ إنه أحد الأخطاء القضائية، أو ببساطة أحد التجاوزات البشعة التي لم نسمع أو نعلم بمثلها قط، مع أنها ليست نادرة الوقوع.
عندما قرأ رئيس المحكمة أمامي، التهم الرئيسية الكثيرة التي من أجلها أحاكم، وكل واحدة منها أخطر من الأخرى ـ لم أتمالك لأبتسم ـ لابد أن رئيس المحكمة قد استغرب. لم يزد على أن نظرني، لكنه لم يطرح سؤالا حول ابتسامة في غير محلها، بدون شك سيعتقد أن هذه عادة أو طبيعة لدي. عندما طرح علي السؤال: هل تعترف بالتهم المنسوبة إليك؟ وجدت كل الصعوبة في قمع انفجار الضحك الذي يغالبني، ولو كان لكان فضيحة بلا معنى، وعندما أحسست بالضحك يتصاعد بداخلي، استجمعت كل قواي الداخلية، وكل إرادتي لتحويل هذا الانفعال كي أقول لا لم أستطع أن أضيف إلى ذلك توضيحا. سعدت لأنني تمكنت من الجواب بشكل عادي. لقد مثلت أمام المحكمة دون أن أقتنع بإمكانية انعقادها، مع أنها قد قررت منذ مدة وبشكل رسمي، كانوا مثل ما لو كانوا يحاكمونني بتهمة إشعال حريق في الليلة الماضية في فندق في جزر المالديف، شيء غير معقول نهائيا. إن المَخرج المشرف الوحيد لهذه المحكمة في نظري، كان أن تطلب السماح علنا، موضحة أن المحاكمة بدون موضوع وأنها ارتكبت غلطا، عند ذلك ستكون محاكمة لا سابقة لها في حوليات القضاء، وجلسة غير مألوفة، لكن لاشيء سوى اللامعقول يمكن أن ينقذ هذه المحكمة لا الاعتذار ولا التبرئة.
إن ما يستدعي الإثارة بشكل خاص هو ظهور القاضي واثقا، جادا ومنضبطا، شيء مدهش. إما أنه كان يلعب دورا مرسوما، بالمعنى المسرحي، مقنّعا في مسرحية تراجيدية ـ ساخرة، سيئة الإخراج، أو أنه يجهل كل حقيقة عن الموضوع ما ظهر منه وما خفي، ولديه اعتقاد بوجود ذرة حقيقة في هذا الجبل ـ وحدها كافية ـ للعثور على الحقيقة التي يحتمل أن تكون: أنه أمام مجرمين متمرسين على الخداع وإخفاء جرائمهم. كنت الوحيد الذي يعتقد بحسن نيته، كما هو الحال بالنسبة للوكيل إلى اليوم. بعد قراءة محضر الاتهام، قاطعت الإنصات إليه، انطلاقا من إحساس بأنني لست معنيا بالمحاكمة التي هي في الحقيقة ليست محاكمتي، والتي تدعو إلى الضحك المهرج، أفضل الطرافة لا التهريج، التهريج يؤلمني أكثر مما يؤلم ضحاياه.
أصبت بالذهول عندما أدخلوا المساكين الشهود العيان على الجريمة كان هناك شهود عيان على الجريمة! من فضلكم. تناوُل التبغ بجرعات افريديريك الأكبر ساعدني على تحمل تلك اللحظات التي بدت أطول من خطابات سحبان وائل، عدت للاستماع، ليس للأدلة ـ إنها باطلة ـ ولكن تأدبا، عندما بدأ هؤلاء المحامون الذين يستحقون كل الإعجاب مرافعاتهم في قضية خاسرة كالعادة، هم هكذا وخاصة منهم القدماء الذين أعرفهم، منذ حوالي ربع القرن! منذ بدأت هذه المحاكمات السياسية الصاخبة، تغزو الحقل السياسي، مفسدة اللعبة ومشوشة معنى السياسة نفسها، هذا المجال النبيل الذي يمكن أن يتصدر مجال التربية. هم أنفسهم، نفس القيم الراسخة في الوجدان، نفس الإخلاص، ونفس التفاني متأثرين من هذا الظلم كما لو كانوا يواجهونه لأول مرة في حياتهم طيلة مدة عملهم المهني، كما لو كانوا يرافعون لأول مرة في حياتهم، شهم، إنسانيون، مؤثرون. يراودك الانطباع أنهم لا يعيشون في هذا المجتمع الذي سلبت فجأة كل قيمه، ونصب مكانها صنم جديد: الكسب المادي، الأقل إجلالا من اللات والعزى ومنات. بم يكسبون عيشهم؟ لا أعرف. خلال هذه المحاكمة، أبلغوني أنني الشخص الأكثر محاكمة في هذا البلد ـ بئس ما آثروني به ـ ومع ذلك لم يطلب مني هؤلاء المحامون مدة هذه المحاكمة أي فلس، ولم يقبلوا أبدا التطرق إلى الموضوع. لكن إذا أضعت شهرين من الصباح إلى ساعة متأخرة في المساء في قضية مثل (اكراب) بدون جدوى، وتفعل الشيء نفسه كلما كانت محاكمة سياسية، فإن ذلك يعني أن معاشك سيصبح شحيحا!. إصرارهم حالة تثير الفضول لا تفسير لها، الوضع برمته ضدهم، الدولة، المجتمع، وجودهم لا يمكن أن يفسر إلا في ضوء اللامعقول.
يحدث أحيانا أن نكتشف جوهرة ثمينة وسط القاذورات، أو إذا أردنا البحث عن تفسير ديالكتيكي لوجودهم، في نقيض الأطروحة، يؤدون وظائفهم كما لو كانوا جماعة من الصالحين، يعملون مدى الحياة لله وللبؤساء. لنتذكر معنى البؤساء كما هو عند كاتبها المشهور فيكتور هيغو؛ توجد نقطة عندها يلتقي المجرمون والمظلومون، يتشابكون وينسجمون في كلمة واحدة، كلمة مشئومة، هي البؤس.
محاكمة مثل اكراب مضرة خصوصا بالنسبة للذين اخترعوها، لأنها تساهم في القضاء كليا على الثقة في المؤسسات، أسفا، فإن ذلك لم ينحصر على الأجهزة التنفيذية والقضائية، الجهاز التشريعي أيضا طاله ذلك كي يشمل الفساد كل شيء دفعة واحدة. أخذت الجمعية الوطنية على نفسها مهمة رفع الحصانة عن نائب بريء - يمكن أن لا يكون بريئا من كل شيء- لكنه جملة وتفصيلا بريء من كل ما نسب إليه من تهم، ولسوء طالعها، لم يكن أي نائب. الأمر يتعلق بنصف ملَك مستقيم كل حياته، صادق في كل الظروف، مستعد لمواجهة العالم أجمع من أجل كلمة حق، إنه معلم متعارف عليه، نموذج نادر في مجتمع سحق كل أبنائه وفقد كل معالمه.
هذا النوع من الظلم والأخطاء والجرائر الفادحة، وسوء التقدير والتصرفات، نزق بدون معنى، تعنت لا مبرر له، حصد وخلط جيدا بطريقة لا يدركها أحد، بكل السياسات السيئة، بكل الاختيارات اللامفسرة، من طرف عقل لا مصنف، يمركز كل شيء، لا يعرف أحد منطلقه، لم يفوضه أحد، ولم يكلفه بهذه المهمة، يعمل بدون انقطاع، يفرض نفسه على الكل، يصدر قراراته النهائية بدون تاريخ أو توقيع، توزع آليا وفورا للتنفيذ ودون نقاش.
إن النتيجة الأولى لهذا الأسلوب من العمل هي فقدان الثقة والمصداقية، وهي أبرز مظاهر الأزمة السياسية.
إن الذين يعرفون التصرفات السابقة من باب أحرى إذا كانوا ضحايا لها، عندما تعلن لهم السلطات أشياء حقيقية: مفيدة أو مضرة، فإن أولى ردود فعلهم هي أن يقولوا عادت العجوز متنكرة، مقنعة وراء بهرجها، إنه خيال جديد. محاولة انقلابية دون صوت؟ إنها فبركة. أسلحة قاتلة في توجنين؟ إنه وهم. هكذا تتحطم المصداقية.