عيد وطني بطعم النصر، هو ما عاشه الموريتانيون وهم يخلدون الذكرى التاسعة والخمسين لقيام دولتهم الجامعة الأولى في التاريخ، وقد خرجوا، لتوهم، من عشر شداد، شهباء، عجفاء، فعمهم الحبور والاغتباط، فيما يتقاسمون بوحدة ونسجام آمال وطموحات اليوم والعد، وما بعد الغد، وقد بددت حكمة رئيسهم وروح المسؤولية لديه، وصرامته بلا تردد، ما اوجس المواطنون في أنفسهم من خيفة، بعد ظهور بوادر عدة لتصرف أهوج، غير محسوب العواقب، اقتنع الجميع اليوم أنه كان وشيكا.
بدات بوادر تلك المخاوف، يوم انقسمت بطانة ورفاق وخلصاء الرئيس السابق، من قادة الحزب الحاكم ومنتخبيه ووزرائه وأطره، انقسموا في غيبته، بشأن مرجعية حزب الاتحاد، بعد تولى الرئيس الغزواني مقاليد البلد، فارتفعت اصواتهم وعلا صخبهم، وتناقضت بياناتهم، مما عجل بعودة عزيز إلى الوطن، بطريقة استعجالية لا تخلو من إثارة واستفزاز، حيث ترأس، بلا صفة، في مقر الحزب اجتماعا أكد خلاله تمسكه، بل وتفرده، بمرجعية الحزب الذي يهيمن على برلمان ومجالس وبلديات الجمهورية.
بدا الأمر جدا لا هزلا، وقد غابت عنه مسحة المزاح والملاينة، ومن ثم تحركت قرون الاستشعار، لتلتقط الإشارات المتبادلة، ومنها الصادرة عن سيد القصر، والتي اولت الأمر بأنه محاولة خارج الشرعية لفرض تقاسم السلطة، بين رئيس سابق، ورئيس اعتلى سدة الحكم بأصوات الناخبين، خلفا له، وكان تمرير تلك التأويلات وترويجها حاسما، حيث انفضت غالبية٠ الحزبين من حول الرئيس السابق، وتجمعت حول الرئيس الجديد،
أثار الأمر حفيظة الرئيس السابق، لتنطلق موجة من الجدل الساخن، حول الشرعية والمشروعية، ومرت الساعات متثاقلة، تنوء بالمعلومات والشائعات والتوجسات التي تحولت إلى مخاوف جدية، من عودة مألوف عمليات العبث بالدستور، فكان على الرئيس المنتخب ممارسة صلاحياته، فتحرك بحزم وصمت وصرامة، لسد منافذ كل تجاوز محتمل للقانون والنظام العام، ليفرغ لحفل الذكرى المجيدة، والذي ظل مقعد الرئيس السابق في عروضه المختلفة، شاغرا بين الرؤساء السابقين، وزعماء الطيف السياسي الوطني.
كان يوم الذكرى في اكجوجت نهاية مرغوبة ومحمودة لعهد ونهج، وميراث العشرية العجفاء، وبداية واعدة لعهد ونهج مختلفين، شام الناس بروقهما ووعودهما ومبشراتهما، وارتقبوهما وانتظروهما، ثم استعجلوهما يوم جلس الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني على كرسي الحكم، بأصوات الناخبين، ثم ظهرت في الرسائل المشفرة للمائة يوم الأولى، وعودا هادىة صامتة وصارمة، بالإقلاع عن مألوف العشرية وخطها، واتباع نهج إصلاحي، تسنده إرادة مصممة على الوفاء بالعهد الأخلاقي، والعقد المدني، وهما جناحا٠تعهدات الرئيس للناخبين.
ما اسعدنا اليوم بتبادل شعبنا التهاني بعيد ميلاد دولته الوطنية، وهو يعيش فرحتين اثنتين؛ فرحة يومه الوطني، وفرحة طي صفحة كريهة من كتاب الزمن السياسي، أشرقت بطبها آمال تمكننا أخيرا، من امتلاك امرنا، والتحكم في مجداف سفينة مجتمعنا، والاختيار الحر بين البدائل المتاحة لنا؛ فهنيئا لشعبنا الصبور الجسور، ولرئيس اخترناه بإرادتنا، ونرتقب في عهده انطلاقا آمنا، بلا حواجز، نحو ما نصبو إليه من عزة وحرية ونهضة شاملة، نبلغ بها آفاقا ومصاف منعنا من تبوئها لعقود متتالية من الفساد والإفساد.
لم يكن الإفلات من كلاليب العشر الشداد، بلا تكاليف باهظة مرهقة، أمرا محتمل التصور، بله الحدوث، لولا حكمة الرئيس الغزواني وصرامته، وتصميمه على إنقاذ البلد من كارثة حتمية اكتملت اركانها، بعد أن نضجت عواملها وشروطها، فكان هو من نزع فتيلها، وخلص الدولة من بين فكي التنين، وزحزح المجتمع عن فوهة بركان نشط، وثقب اسود لا يبقي ولا يذر؛ يسنده التفاف غير مسبوق، حوله، للقوى الوطنية. عسكرية ومدنية، موالاة ومعارضة، كللت مساعيه الإنقاذية المصممة بالنجاح.
بإرادتنا، إذن، خرجنا من العشر العجاف، ثم بالتفافنا حول قائد المرحلة الذي جاء بإرادة غالبية الناخبين، نبدأ مسيرتنا المظفرة، ولا وقت لدينا لنضيعه، فقد ضيع من قبلنا العقود خلف العقود؛ وإن الطريق لطويل وشاق، والعقبات التي يتعين تذليلها كثيرة وعنيدة، وقد يكون لزحزحةبعضها ثمن كبير؛
من المؤكد أن اولويات جدول الأعمال العريض الذي ينتظرنا، كثيرة ومتشعبة، لكن منها ما يتطلب البدار، ولا يقبل التأجيل، لحجم تكاليف واقعه...ولعل من أهم ذلك:
١- حسن الاجتهاد في اختيار المسؤولين والأعوان، من العناصر الصالحة، إيمانا وخلقا وكفاءة، بحيث تتشكل للرئيس وحكومته وحولهما بطانة من أهل الخير تشير بالمعروف، وتعين عليه، وتنهى عن المنكر وتحذر منه، وإبعاد كل من قامت الأدلة الدامغة على فساده، عن أي مسؤولية قيادية، مع مراعاة الحد الاوسط المرضي من التوازنات العرقية والفئوية والجهوية، بلا محاصصة، ولكن بعدل وقسط وإحسان
٢- كنس كل بؤر الفساد، ومحاسبة المفسدينن، بما يسمح بفتح جميع الملفات، قديمها وجديدها، بما في ذلك إفلاس شركات الدولة، ومصير الهبات والقروض والمساعدات العينية والنقدية، ومراجعة صفقات التراضي تحت الطاولة، وفحص الرخص والاتفاقيات المشبوهة المريبة، ونشر تفاصيل صفقات المطارات والموانئ، ومحاكمة الضالعين ومعاقبتهم، وبسط هيبة الدولة وسيطرتها على حوزتها الترابية ومياهها ومنافذها الجوية والبحرية والبرية.
٣- فتح حوار سياسي اجتماعي وطني حقيقي، لا يقصى أحدا، يضمن مراجعة توافقية للدستور، وإعادة بناء متفق عليها للجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، من الكفاءات الوطنية المستقلة، غبر الحزبية، تمهيدا لحل البرلمان وإلغاء المجالس الجهوية، وإجراء انتخابات برلمانية شفافة ونزيهة، واستعادة الغرفة العليا للبرلمان)مجلس الشيوخ( وعودة علم الاستقلال، ونشيد البلاد الأصلي.٤- إعادة النظر في جملة القوانين المنظمة للحريات، وخاصة قوانين الأحزاب السياسية، وقانون الجمعيات والروابط والنقابات، وقانون النشر والصحافة، ومراجعة تشكلة ومهمات الهابا والسلطات التنظيمية والمجالس ذات الصلة بالإعلام والثقافة، بما يحقق الظروف الصحيحة لممارسة المهن الصحفية والثقافية، ويجذر الممارسة الديمقراطية، ويعطي للحريات الفردية والجماعية أبعادها المجتمعية الغائبة
٥- إعادة التوازن فورا إلى السياسة الخارجية، بما يبعد البلاد عن المحاور والكتل، التي تفرق بين الإخوة والجيران، مع العمل على رفع حجم التأثير الدبلوماسي الوطني، في الدوائر والإقليم التي نحن جرء منها، كما في العالم ومنظماته، مع الإسناد الدبلوماسي الفعلي والدائم للجاليات الموريتانية في الخارج.
ثم تتواصل فصول جدول الأعمال الوطني، تباعا....