خوفا من انكشاف السر هلْ تعيد نواكشوط السفير الاسرائيلي؟
إن قرار واشنطن الأخير المتعلق برفع موريتانيا من لائحة الدول الافريقية المستفيدة من مزايا اتفاقية تفاقية "اغوا" (إفريكان جروث اند اوبورتيونيتي اكت) التجارية، التي وقع عليها عام 2000 خلال إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون للولايات المتحدة الأمريكية، بهدف تسهيل وتنظيم المبادلات التجارية مع الأفارقة، يمثل هـذا القرار في مرحلة أولـى لطمة كبيــرة لجهـود السفير الآمريكي مايكال دود مان فهـو على عكس السفير الأمريكي السابق "لاري اندري" يسعـى بشكل واضح إلى تشجيع الشراكة الاقتصادية والتجارية بين موريتانيا والولايات المتحدة على النقيض من سلفـه الذي كان يركز خلال فترة ولايته على تعميق التحاور السياسي بين الحكومتين، والشعبين والبلدين على حد تعبيـره، لكـن السفير الأمريكي الحالـي يعول على تشجيع الاستثمارات الأمريكية في موريتانيا بين القطاعات العمومية والخواص وكبار المستثمرين، وقــد تمكن في وقت وجيز من تاريخ اعتماده في أنواكشـوط من تنظيم أول "منتدى للأعمال" بين البلديـن في شهر نوفمبر الماضي، ليطير بُعيد ذلك الى عاصمة موريتانيا الاقتصادية؛ أنواذيبو في زيارة تهدف على ما يبدو الى مباشــرة المهمة التي رسمها لنفسه، ويبدو أن القرار الأمريكي بشأن موريتانيا سيشكل لطمة لمثل هذه الجهود.
أما اللطمة الثانيـة؛ وهـي الأكبـر والأكثر ضررا فقد سددها الرئيس دونالد أترامب على الخـد الأيمن للحكومة الموريتانية التي فتحت أعينها، منذ شهـور قليلـة على المزايا التجارية والاقتصادية لهـذه الاتفاقيـة، فموريتانيا التي انضمت لـ"أغوا" سنة 2007 كانت بفعل انعدام الاستقرار السياسي تفرط في مزايا العضوية، فعلى اثر المباحثات التي أجراها في يونيو 2011 وزيرها للشؤون الاقتصادية والتنمية وكان ساعتها سيدي ولد التاه حول الموضوع، كانت أنواكشوط قد استسلمت لسُبات طويــل قبل أن توفد في بدايـة 2018 وزيرة التجارة السابقة خديجة امْبَاركْ فَالْ على رأس وفـد حكومي هـام إلى العاصمة الآمريكية واشنطن للتباحث حـول قدرة السلع والبضائع الموريتانية (ملابس، أفرشـة وحيوانات وصناعات سمكية ) علـى الدخول الى الأسواق الآمريكيـة، وقـد تصادف هذا الاهتمام الموريتانـي مــع وصـول السفير الآمريكي الجديد الى أنواكشوط.
تـدركُ، الآن الـ38 بلدا من الدول الإفريقية بما فيه الكفايـة أن تطبيق هذه الاتفاقية مرتبط بفتح أسواقها أمام السلع والبضائع الأمريكية، وأن ما سوى دلك قـد يعرض امتيازاتها التجاريـة للتعليق، وخاصـة في عهد الرئيس دونالد اترامب الذي لـم يكتفي هذا العـام 2018 بتعليق استفادة موريتانيا من الاتفاقية بذريعة عدم توفـرها على سجل نظيف أو إرادة جادة لحماية العمال وترقية حقوق الانسان والحكم الرشيد دولة لكن القــرار يشمل أيضا رواندا بسبب حواجزها الجمركية المفروضة على الملابس والأحذية الأمريكية المعاد تدويرها، وهو موقف يكشف بعض الملامح الجديدة في تعاطي السياسة الأمريكية مع افريقيا التي تناهز مبادلاتهما التجارية 170 مليار دولار سنويا.
وبطبيعـة الحال سيكون لقرار الرئيس الأمريكي القاضي بتعليـق استفادة موريتانيا من اتفاقية "آغوا" تبعات تجاريـة ملموسة على الخـواص والشركات الموريتانية التي أبدت رغبتها مؤخرا فـي الاستفادة من التسهيلات الأمريكية، لكن الامتعاض الموريتاني حيال هذا الموقف يكشف عن مخاوف أمنية أكثر منها سياسيـة، فموريتانيا لا تريـد أن يتكلم العالـم عن "سرها الدفين" ولا عــن ضروب سوء المعاملة التـي يتعرض لها العمال السُود داخل المجتمع، و الواقــع أن مآلات ملف العبودية يثيـر القلق داخل الأوساط الحاكمة، وخاصـة أن الموقف الآمريكي يستأنس بقرار الرئيس الأمريكي الذي يستند بدوره الى عـدم إحراز موريتانيا التقدم الكافي للقضاء على ممـارسات "العمل تحت الإكراه-forced labor " و "العبودية الوراثية -heridatary slavery"، وهـي ممارسات تتعارض بشكل واضـح مع الشروط التي أقرها اعضاء الاتفاقية الدولية الموجهة لتحفيز التجارة مع افريقيا.
من خلال خبراتنا التراكمية ازاء تعاطي الأنظمة الموريتانية مع المعضلات الاجتماعية والمشكلات التي يمر بها البلد، فان هذا التعاطي اتسم على الدوام بالانفعاليـة والتشنج والجدال الذي ليس من ورائه طائل كبير سـوى شغل الرأي العام بمخاطـر وهمية، ولعلنا نتذكـر حمــلات الافتراء التي شُنت على مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بقضية الرق غولنارا شاهينيان عقب تصريحاتها في نوفمبر 2009، والتي تضمنت إقرار الأمم المتحــدة بوجود "عبودية تقليـدية" في موريتانيا، وهـو السلوك ذاتـه الذي طال مقررو الأمم المتحـدة الخاصين اللذين زاروا تباعا بلادنا ما بيـن 2009ـ2017. إن الجهود الرسمية، لا تتوانـى عـن محاولات استمالة للخبراء الدوليين والبعثات الديبلوماسية ولكنها لا تستقـر طويلا في المنطقة الرمادية حتى تتحول الى استحضار الجانب التآمري كلما اتضحت مسانـدة العالـم الحُر للمجموعات الإثنية أو استنكار السياسات غير الايجابيـة فيما يتعلق بمأساة مجتمع العبيــد.
مرة أخرى، تبدى أنواكشـوط امتعاضها من مشـروع قـرار الرئيس الآمريكي دونالد الترامب الذي عدت تعليله بعدم كفاية الترتيبات المتخذة لمحاربة الرق مفاجئا، "والواقع أن موريتانيا قد بذلت، على وجه الخصوص، خلال السنوات الأخيرة جهودا كبيرة في القضاء على مخلفات الرق، وحققت، دون شك، نتائج عظيمة. ومن ثم فإن تعليل القرار الأمريكي يستحيل أن تستند إلا على معلومات مغلوطة تم جمعها من مصادر منحازة وغير ذات مصداقية"، يقول بيان وزارة الشؤن الخارجية الموريتانية، لكـن يجدر بنا تنبيـه صناع القرار عندنا إلى ضرورة إدراك خطورة شخصية الرئيس الأمريكـي وبكونه الأقـدر من بين قادة الغرب في الوقت الراهن على كشـف ورقة التوت التي يخفي خلفها الموريتانيون مسألـة العمالة بالسخرة، وقـد يأتي الأوقات التي لا تفيـد موريتانيا موجه الانفعالات الغاضبـة أو ردود الفعل غير المتوقعـة، لأنها اذا لـم تتملك الإرادة الحازمـة لمواجهة الاختلالات الملاحظـة والمعضلات المُعاشة داخل اوساطها الاجتماعية فإنها ستجد نفسها في وقت من الأوقات في مواجهة المجتمع الدولي.
من السهل إنكار بعض المظاهر السلبية وإلباس دعاة تغييرها ثوب التآمر على "سمعة البلد" ومكانته الإقليمية، لكن من الصعب على أنواكشوط الإجابة على التساؤل من هـم قـادة المؤامرة؟ ومــع من كان يتحدث الرئيس اترامب؟ هل هم دعاة حقوق الإنسان في موريتانيا ؟ أم هـي النقابات العمالية ؟ أم أنـه كان يتحدث مع السلطات الموريتانية ؟ في اعتقادنا أنه تحدث مع الجميع وأن الخلاصة التي أمكنه التوصل اليها تكمن في القرار الأخير القاضي بتعليــق استفادتنا من المزايا التجارية لاتفاقية "آغوا"، وبذلك نكون البلد الافريقي الثاني الذي يجري تعليق عضويته من هذه الاتفاقيـة خلال هذا العام، فما هـي التنازلات التي ستقدمها موريتانيا لكـي يراجع البيت الابيض قراره، هل ترقـي إلى اشراك الشركات الأمريكية في صفقات الغاز والطاقـة؟ أم أن الدولـة الموريتانية ستكتشف مع مرور الوقت ضرورة مواجهة الاختلالات بنفسها؟.
أما الدرس المستفاد لدى متابعـي الحالـة الموريتانية فهـو انه كلما كان هنالك طرف اجنبي مشاركا أو حاضرا بين المكونات الموريتانية، كلما بدت تلك الأطراف اكثرا ارتياحا على التحدث فيما بينها؛ وهذا الدرس مُخيـف وهـو إن دل على شيء فهـو أن المجتمعات المحلية تفتقـد للثقة فيما بينها، حيث يفتقد الجميـع، كذلك مستـوى التصميم والشجاعـة على مواجهة المظاهر الاجتماعية السيئة التي ورثتها الدولة الحديثة عن المجتمعات التقليدية.
يحتفظ الجيل الذي واكب تأسيس موريتانيا بدور مشهود للرئيس الآمريكي دوايت أيزنهاور في الدفـع بالاعتراف بموريتانيــا، كدولـة مستقلة وذات سيادة، كما أن الذاكــرة الجمْعِية للشعب الموريتانـي لا يمكنـها نسيان دور الرئيس جون أفْ كينيدي الذي كان، هو الآخر أول من ارسـل سنة 1961 السفير ويليام إيغلتون ليفتتح سفارة بلاده في انواكشوط، في تلك الفتـرة كانت أنواكشوط عبارة عن قريـة مقامـة بجوار بئـر عميقـة تم حفـره في باطن كُثيب رملي أقيمت على جوانبـه اعرشة وخيــام مبعثرة ثم في وقت لاحق بنايات إداريـة، كانت حتى ذلك الوقت في طور الإنشـاء والتعمير من بينها مبنـي الرئاسـة التي أقام الوافـد الجديـد سفارته بجانبها الغربي، ليكون الجار الأقرب وليحوز في ترتيب لائحة البعثات الديبلوماسية الرقـم 01 تكريما وامتنانا من رئيس موريتانيا المؤسس المخطار ولد داداه للرئيس جون أف كينيدي الذي عُرف خلال الأوقات العصيبة والمحن المعيشية العويصة التي مر بها الموريتانيين بأيـاديـه البيضاء في المجـالي الانساني والدعـم السياسي.
إن سمات الشخصية الموريتانية التي كانت تـروق لها تلك الحقبـة، وتحتفـي بمنجزاتها وتفتخـر بصداقـة بلاد العـم سام قـد تبدلت وتغيـرت مع مرور الوقت؛ فموريتانيا التي لجَأت إلـى قطــع العلاقات مؤقتا سنة 1963 تضـامنا مع الفلسطينيين ـ بالرغــم من أن الدول العربيــة، في أغلبها الأعـم لم تكـن تعتـرف بوجـود كيان سياسـي اسمه موريتانياـ، كانت تدشــن بذلك مرحلـة من الجمـود في العلاقات مع واشنطن التـي احتفظت مع الزمـن بعلاقات تتسمُ باللامبالاة أحيانا والفتور أحايين كثيـرة؛ ولـولا شبَحُ الإرهاب المخيـم على منطقة الساحل وتزايـد اكتشافات الطاقـة على سواحل موريتانيا، لبقيت الصلات عادية والعلاقات مجرد مقبولـة.
من سمات الشخصية الموريتانية الحالية، دفــن الرأس في الرمال كلما استجـد موقف دولـي على شكل "إنذار" أو دقت أمارات التغيير داخل مجتمع مبني على التفاوت وتعميق الانقسامات، فها هـم قـادة الرأي المعروفون بقربهم من دوائر السلطة الحاكمة، يلوحون بضرورة اعادة العلاقات مع تل أبيب، قطعا للطريق على الرئيس دونالد اترامب ونُذر قراراته التي تشـي بأن بوصلة اهتمامات البيض الأبيض باتت تطوق منطقتنا.
مهما يكن، فإن الدعـوة الى اعـادة العلاقات مع اسرائيل تبدو صادمة ومؤلمة وتبعث على الغثيان والغضب، في الآن ذاتـه وإن كنا نتوقعها ونستشعر بها، حيث أن الأنظمة الموريتانية لا تتردد عن وضع يدها في يـد الصهاينة، تصالحهم وتعترف بهم، وتتبادل معهم السفراء اذا استشعرت بأن العـالـم الحُر يسعـى لتبنـي المظالـم الاجتماعية داخلها أو يهتـم بإثارة ملف الإرث الإنساني العالق في اعناق قادتها العسكريين، فـفي عام 1999 أصبحت موريتانيا وهـي الطـرف القصـي ثالث دولة عضو في الجامعة العربية (إلى جانب مصر والأردن) تعترف بإسرائيل كدولة ذات سيادة، وكان تبرير الاعتراف والتطبيع الذي ساقـه الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع هـو أنه مجبر لا مخيـر على قطــع الطريق على الحركة الزنجية الناشطة في فرنسا والولايات المتحـدة والتي بات نشطاؤها مصدر إزعاج يؤرق السلطات الموريتانية علـى المنابر الدولية والأممية.
في الوقت الراهن بات التطبيـع مع الاسرائيليين واستضافة سفيرهم، والترحيب بوفودهم، برعاية ومباركة الأنظمة والممالك الخليجية خيارا يجري استسهاله وتسويقه قطعا للطريق على نشطاء مكافحـة العبوديـة ودعاة حقوق الانسان عموما اللذيـن أزبدوا وأرغدوا في كل مكان، يبدوا هذا الإجراء أسهل وأقرب الى التحقيق من المطالب التي تجرأ البعض الآخر على نشرها داخل الصحف وعلى المواقع الالكترونية والتي تتضمن مطالبة الحكومة الموريتانية بمراجعة علاقاتها مع واشنطن، إن مثـل هذه المنشورات تدعوا للفكاهة والضحك، فالولايات المتحـدة ليست فقط أول دولة تعترف رسميا باستقلال موريتانيا (يوم عيد استقلالها)، ولكنها الآن شريـك اساسي في محاربة الارهاب وداعـم أساسـي لمشروع مجموعـة دول الساحل الخمسـة، هذا فضــلا عن المصالح السياسية والأمنية القائمة معها، كل هذه الاعتبارات بالإضافـة الى كون الولايات المتحدة عضـو دائم بمجلس الأمـن وقوة عظمـى كفيلة بجعل موريتانيا تكف عـن المخاطرة أحـرى أن تفرط في المصالح الحمائية المترتبة على الشراكـة مـع الآمريكان.
ليس من الأمنيات، غير المُحققـة أن يأمل الموريتانيون بإمكانية أن يعيشوا عيشا كريما، مادياً ومعنوياً، نفسا وجسدا وروحا، وألا يقايضوا تنوعهم وتعايشهم بعلاقات مع أي كان ومع مهما كان، تنقصنا فقـط الشجاعـة لمواجهة تاريخنا وواقعنا، وتصوراتنا للاختلاف، فهل يتوجب أن يتمادى الحــاكم في مزاوجة التخبط بالاستبداد!؟.
بقلم عبيد اميجن سالـم
كاتب ومهتم بشؤون دول غرب افريقيا