في الدكان المجاور للمنزل، فوجئت بيوسف بشحمه ولحمه بعد أكثر من عشرين سنة من الفراق، احتضنته بسرعة يوسف كيف حالك أين أنت .. طول هذه الفترة.. نظر إلي يوسف بعينين زائغتين..وكان صاحب الدكان الأسمر يمسح يده على رأسه وينظر إلى المشهد محتارا ..اتسعت حدقتا عينيه وبدت أسنانه وهي ترسم أشكالا متعاركة في لثته .
فوجئت بالمشهد، انزاح عني يوسف وهو يقول لصاحب الدكان أريد ماء لأشرب ..نهره الرجل..
استعدت توازني بسرعة، فإذا يوسف حافي القدمين يرتدي سروالا قصيرا لا يصل إلى قدميه.
شرب بسرعة مثل الليث الخائف كما يقال وتقاطر الماء في خطين عبر شفتيه ..وغادر هائما.
اتبعته نظرات حائرة، ليقطع صاحب الدكان لحظة الصمت قائلا : أين تعرف هذا المجنون ..ما علاقتك به.
رددت عليه متأسفا : لم أكن أعلم أنه مجنون ..كان عاقلا رب أسرة ويعمل جنديا من الدرجة السفلى في الحرس الوطني لأنه لم يحمل شهادة في عمره غير الشهادتين التي يدخل بهما الإسلام أو شهادة ميلاده.
مر يوسف مسرعا ..وبقيت أستعيد ذكريات الطفولة مع يوسف القوي البنية الذي كان مثالا للتصميم والعزم والقدرة على حمل الأثقال والأمساك بالثعابين والسحليات.
يوسف قصة أخرى ..كان مجرد أمل حياة ألقاه شيخ تجاوز السبعين في رحم فتاة تصغره بأكثر من 60 سنة، واختلف الإبن وابنه في طريق الحياة، ربما رأى يوسف كتفي أبيه على مشارف نهايات الحياة، عندما كان يوسف يدلف إلى عالم الحياة..لم يعرف عن أبيه لا وجهه ولا شكله ولم ير عصاه التي كان يتوكأ عليها، وعليه فقد كان مشروع يتيم لا أكثر..
تكفلت مدرسة الحياة بتربيته كما يشاء، كان طويلا سبط العظام، ويقال إن ذلك سر متصل في أعمامه وأخوته الذين لم يتعرف عليهم إلا مرة واحدة ..عندما تحرك فجأة نبض الرحم في قلوبهم، واستدعوا يوسف إلى منزلهم لمدة أسبوع.
ولأن يوسف قادم من حينا الفقير الذي يمارس فيه الأطفال أقسى وأشد أنواع العراك بشكل دائم كتعبير عن عمق الصداقة والاندماج بين قلوب الأطفال.. لم يجد المكان مناسبا في البيت الكبير المكون من طابقين وشرفات مزركشة.
وجد يوسف أطفالا مثل لون البيض كما يقول ومثل ليونة الأغضان..أيديهم رطبة جدا وينتعلون أحذيتهم دائما حتى وهم يجوسون خلال الغرف..عكس يوسف الذي كتبت العثرات والمسامير على أقدامه خارطة الجراح ..هو لا يعرف الحذاء إلا إذا كان في رحلة طويلة.
بسرعة اندمج يوسف مع أبناء أخوته ..الصغار هم يشبهون الزجاج ينكسرون أمام أي جس من يد يوسف الخشنة..وحصل المكروه ..دفع يوسف أحد أبناء أخوته فتكسرت نظاراته الطبية الصغيرة، وشجت جبهته ..
خرجت أم الطفل كالعاصفة وبدأت في سب يوسف وتوبيخه، ورد عليها هو الآخر مستعينا بكل القاموس الذي ينتشر ببذاءة في حينا الصغير، بعد أن هددها بأنه يمكن أن يمسح بها يديه لتتحول إلى قطعة من امبورو وصوص وفق تعبيره
وفي المساء عاد إلى الحي يوسف ..وانقطعت صلة الرحم...فأم الصبي خيرت زوجها بينها وبين أخيه يوسف ..وبسرعة حسمت جراح الابن الصغير الخيار ..ضد يوسف ..فغادر غير مأسوف عليه.
دارت عجلات الزمن ..واستمرت الأيام ..وبدأت موضة دخول الجيش والحرس تنتشر في صفوف المراهقين الأكثر غباء في المدرسة والأقوى عضلات في الصراع.
قالت إحدى المدرسات : يالله كيف سيكون مستقبل الأمن .. هؤلاء المراهقون لصوص أو سائرون في طريق اللصوص كيف يصبحون أفرادا في حفظ الأمن
رد عليها أحد الجيران : دعيهم سوف يؤدبهم العسكر ..لقد أدبوا الشعب كله.
وبالفعل عاد يوسف بعد ثلاثة أشهر حليق الرأس لكن عضلاته أصبحت أكثر برزوا ..وأصبح أكثر فتكا..
غادرت أنا الحي لسنوات طويلة ..وسلكت أنا الآخر وعشرات أمثالي طرائق قددا من فجاج الحياة الفساح ..
لم ينقطع حبل الأخبار عن حينا القديم ..لكن لم يعد قويا ..سألت بعض الأصدقاء القدماء عن يوسف ..وكيف تحول من ذلك المارد القوي إلى معتوه يمشي حافي القدمين ..قال إنها المخدرات ..لقد كان ضمن عناصر متعددة يمارسون تدخين المخدرات وترويجها وقد طرد من الحرس بسبب وضعيه الصحي والإجرامي
وبعد سنوات قليلة بلغني الخبر الحزين أن يوسف توفي بعد أن فتك به مرض خطير وأن أخوته حاولوا في الوقت الضائع إسعافه وصلة رحمه لكن الخطر كان قد تمكن من جسمه، وغادر الدنيا محلقا على أجنحة من المرض والتعاسة والحرمان
ترك يوسف خلفة ابنة واحدة من سيدة تزوجها قبل أن يدخل عالم المخدرات أو قبل أن تفتك به المخدرات ..وخلف أمه الحزينة الباكية ..وهي تجد في حفيدتها سلوانا عن الفقيد ..وتتمنى لها أن لا تسلك ذات الطريق
تلعن الجدة المخدرات وتجارها ومن يروجونها ..وبدموعها تتوسل للجميع..حاربوها ..المخدرات خطر عليكم
بقلم المختار ولد أحمدو
خاص ريم آفريك