بسم الله الرحمن الرحيم
لم أكن من دعاة الفتنة يوما من الدهر، أو المنادِين بالصِّدام المسلّح بين الشعوب والأنظمة، ولا أفتيْت بذلك قط، ولن أفتىَ به عَوْضُ، لِمَا يترتب على الفوضى والانفلات الأمنىّ من مظاهر "السيبة" التى أكْرَه أن تعود إلى أرضنا كَرّةً أخرى.
بيْدَ أن ذلك لا يعنى أننى أرضى بالانصياع للاستبداد، بل إننى أبغضه بقدر ما أبغض "السيبة" أو أشدّ.
وإذا كان نصٌّ نبوىّ من دستور المِلّة يأمرنا ألا ننازع الأمر أهله، فعلى الرأس والعين، لكن فى النص نفسه أن نقول بالحق لا نخاف فى الله لومة لائم.
مع أنه يلزم المستدلّين بذلك القدر من النص تحديد المراد بأولى الأمر فيه.
ولقائل أن يقول: ما بال المتفقهة لم يقولوا لمن خالف النص من حكامنا السابقين والقائمين، فنازَع الأمر أهله، وأخذ الحكم بالتسلط والغلبة: إنه خالف النص؟ وإن تصرفه "غير دستورىّ" بمنطق الشرع؟ وإن ما أحدثه من تغلب قد يقع من متغلب أقوى منه، وإنه لن يكون منا ساعتَها إلا السمع والطاعة؟ وإننا سنُفتيه بأن ملكك قد زال بحكم الشرع، كذلك؟ وهكذا دوَاليْك.
***
إن عهدى بالحكم فى نصوص الشرع أن يكون قائما على الشورى، وعلى العدل والإحسان والتواضع، والورع، وخفض الجناح للمؤمنين، والسهَر على مصالحهم العامة والخاصة، بكِلاءة دار الإسلام، والذب عن الشريعة، وإقامة حدودها، والقَسْم بالسَّويّة، والقسط فى القضية، وإيصال الحقوق موفورةً إلى أصحابها، وسياسةِ الدنيا بالدين، وتحقيق الكلّيات الخمس التى اتفقت عليها شرائع السماء، وارتضتها العقول السويّة، والفِطَرُ السليمة، والابتعادِ عن حطام الدنيا، وفتنة المال والجاه والسلطان، والنأى عن طلب الإمارة والحرص عليها...
وعهدى بالعلماء والحكماء أن يكونوا نَصَحَةً للحكّام، صادعين بالحق، أبعدَ الناس عن المداهنة والتزلف، وعن لَىِّ أعناق النصوص، والكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولقد بلَوْت فى هذه الأعصر، ما يدَع الحليم حَيران، من مخالفة الفريقين فى هذه السبيل، لِما أقرَّته أصول الملّة، وأجمعت عليه الأمة.
حتى إذا هلك الناس، وأجدبت الأرض، وغلا السعرُ، واستفحل القتل والاغتيال، وانتشر الاغتصاب بشكل مروّع لم يسبق له مثيل، وطفَح كيل المخدرات، وصار المغْنَم دُوَلا، والغلول مفخرة، والورع عن المال الحرام سُبّة وخَوَرا، واحتدّ الفقر والبؤس والمرض، واستحكمت حلقات النوائب والآزام من كل جانب، وعلى كل صعيد، وبلغ السيل الزُّبَى، وتجاوز الحِزام الطُّبْيَين، نادى منادى الحكم أن هلُمُّوا إلى تغيير علَمكم بوضع خطين أحمرين، والاستفتاء على تغيير موادّ من الدستور...!
وسيتلو ذلك تغييرُ نشيدكم، فإنه ـ وإن نصر الله ورسوله ـ لم ينصر الوطن وطلوله،
فمأموريةٌ ثالثة، أو رابعة...فإن ثلة من المتحدثين باسم نظام الحكم قد صرّحوا بذلك، وآخرهم من صرَخ بأعلى صوته ثلاثا بين ظهْرانَى مستقبِليه قائلا: إنا باقون، إنا مستمرون!
***
ولم يكد المنادى يرفع عقيرته بنداء التغيير حتى اشرأبت الأعناق، وعنَت الوجوه، وخضعت الجباه، وعلت الصيحات، ودُفعت الأموال، وأقيمت الولائم، وتزاحمت العمائم، وتنافس المتنافسون، وقيل: هذا هو عين الحكمة، وهذه هى الضالة المنشودة، وهذا مشروع حضارى لا يعقله إلا العالمون. بل قيل إن الزعيم "هو الذى أطعم من جوع وآمن من خوف"، ولم يزدد صاحب هذه "الأُشنوعة" لدى مستقبلِيه إلاّ تقديرا وزُلفى.
ثم إن هؤلاء قد نسُوا أو تناسَوا أنّات المحروم، وصيحات المظلوم، وزفرات المكلوم.
كما نسُوا من قبلُ هجر الشريعة تحكيما وإنفاذا، راضين بنصوص تذاع، وكلمات تباع، مع أن جل تلك الكلمات مما لا دليل فى الشرع عليه.
وأنّى لمن عقْله فى جيبه، وكرامتُه فى بطنه، أن يرجو الله والدار الآخرة، إلا أن يمنّ الله عليه بالمَتاب؟
وكيف لمن هذه حالُه، ممن لم يأبَهْ بما حوله من الموبِقات، أن يرفع رأسا بقضية الأقصى، أويتألم لأحوال الأمة، أو يأسَى للتنكيل بالمسلمين فى كل مكان؟
لقد دعَا بعض الأئمة فى خطبة الجمعة، قبل يومين، إلى المسارعة إلى التصويت ب "نعم"، وصمَتوا عن حصار الأقصى ومنع الصلاة فيه، وقتل المسلمين فى رِحابه! وسكتوا عن أوضاع شعبهم البائس، بل دأب كثير من متفقهتنا على تلميع الصورة، وتسويغ كل ما نحن فيه من طامات وبلايا.
(فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون).
فأىّ إسلام هذا؟ وأىّ أئمة هؤلاء؟ وأىّ علماء، وأىّ، وأىّ...؟
والآن، وقد أزِفت جولة الرئيس فى عموم أرجاء البلد ـ بدأت الطبول تُقرع، وطفِقت الحشود تحتشد، وبدأ مسلسل نصب الخيام، وبسْطِ الفرُش، وتشميرِ القبائل عن ساق الجِد، وبذلِ الأموال، وإهدَارِ الطاقات، وتبْديدِ الجهود والأوقات، وهاهو ذا الجهاز الحاكم يوقف الأعمال فى جميع دوائر الحكم لمدة أسبوعين متتابعين، ويستدعِى كل موظف للحضور، والدعاية فى مسقط رأسه لتغيير الدستور، وإن لم يفعل هُدّد بفصله عن عمله، وقطع رزقه "وأجَله"!!!
فأين هذا مما يتبجح به القوم من حرية الرأى، وانتهاج المسلك "الديموقراطىّ"؟
عافانا الله وإياكم.
***
أفيقوا أيها الحكام، أيها الخطباء، أيها الأئمة، أيها الفقهاء، أيها التجار ورجال الأعمال، أيها الوجهاء وزعماء القبائل، أيتها النساء، أيها الشباب...
اسمعوا جميعا قول الله تعلى:
ـ (إنا نحن نحيى الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شىء أحصيناه فى إمام مبين).
ـ (لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا).
ألا فتوبوا قبل سكرة الموت، وفجأة الفَوت.
ألا فليكن لكم فيما شاهدتم من غِيَر الزمان، وريب المَنون، وقوارع الدهر، موعظةٌ ومعتبَر، وذِكرى ومُزدجَر.
ألا فاعلَموا أن المرء مع من أحبّ، كما فى الصحيح، وأن الله تعلى يقول: (وإذا النفوس زوِّجت)، أى قُرِن كل شكل إلى شكله، وضُمّ كل جنس إلى جنسه.
ألا فاعلموا أنه جاء فى مسند الإمام أحمد، وسنن الترمذىّ ـ وحسّنه ـ وفى سنن أبى داوود، والأدب المفرد للبخارىّ، وكبرى النسائىّ، وغيرها عَنْ عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو رضى الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ، فِى صُوَرِ الرِّجَالِ، يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَىْءٍ، مِن الصَّغَار، يُسَاقُونَ حَتَّى يدْخلوا سِجْنًا فِى جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ: بُولَسُ، فَتعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ: عُصَارَةِ أَهْلِ النَّار".
وقد قيل إنه موقوف على ابن عَمْروٍ، لكنّ مثله لا يقال بالرأى.
والذَّرّ: صغار النمل، وهو جمع ذَرة. وقوله: يعلوهم كل شىء: أى أن أهل المحشر يطئونهم بأرجلهم، مِن ذِلتهم، وهوَانهم على الله تعلى.
ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.