بدأ رمضان يودع منسحباً شيئاً فشيئاً من دورة الزمن، ودخل الناس في ليالي الأوتار منتظرين ليلة القدر التي تصادف ليلة الخميس المقبل والتي ستشهد، وفقا للمعتقد المحلي، حدث إطلاق الشياطين من أصفادها التي كبلت بها مستهل الشهر.
في هذه الليالي ينشغل العباد بالاعتكاف في المساجد، وتبدأ الأسر التردد على الأسواق لشراء ملابس العيد قبل أن ترتفع الأسعار، بينما يستعد الحلاقون لاستقبال زبنائهم الذين يحلقون في العادة لحى رمضان الكثة التي يطلقها البعض في هذا الشهر.
واهتمت النوادي الثقافية الموريتانية بشهر رمضان حيث نظم بيت الشعر الليلة البارحة، سهرة نقاش تحت عنوان «الأدبيات الرمضانية في الثقافة العربية: موريتانيا نموذجا».
وتطرق المحاضر الرئيس في السهرة الأديب محمد فال بن عبد اللطيف لرمضان في الوعي الجماعي الشنقيطي، ومكانة الصوم في المجتمع الشنقيطي، ورمضان والأخلاق والعبادة، ورمضان والشعراء، ورمضان مربد العلماء، ورمضان ومشكلة ثبوت الهلال، وعملية إفطار الصائم.
وفي محور «رمضان في الوعي الجماعي الشنقيطي» استعرض أهمية رمضان، الذي كان الموريتانيون فضلاً عن تسمية أبنائهم باسمه، فهم يعتبرونه «شهراً لا توجد فيه أيام النحس التي تحدث عنها أرباب هذا الشأن وذكرها السوسي في منظومته الشهيرة، فيجوز للشخص أن يسافر في أي يوم منه وأن يغسل لباسه ويحلق رأسه ويقلم أظفاره لا حرج عليه في شيء من ذلك، وكانوا يتحرون شهر رمضان لإبرام عقود الزواج التماسا لبركته».
وقال: «من بركته عندهم أيضا أنه لا يحاسب المرء على ما أنفق فيه مما جعل بعضهم يعتقد أن الإسراف فيه جائز، ومن بركاته التي يؤمن بها العامة ولا يدركون كنهها أن الشياطين تصفد فيه وتغلق أبواب النيران وتفتح أبواب الجنان كما ورد في الحديث الصحيح، ووقعت فيه المعارك الحاسمة في حياة الأمة كان فيها النصر حليفاً للإسلام».
ونوّه إلى «أن شهر رمضان مع ذلك، وخصوصا في أيامه الأخيرة، يقترن بنوع من الخوف والتوجس لدن كثير من الناس ولاسيما في ليلة القدر، فلا شك أنهم يؤمنون بأنها خير من ألف شهر وأن قيامها له فضل كبير، لكنهم أحاطوها بهالة من التقاليد والأساطير والمعتقدات عكرت عليهم صفوها وذكروا من ذلك إطلاق سراح مردة الجن وانتشارهم في الفضاء وانتشار الأشباح وتحرشاتها بالناس. ومن بين تلك الأساطير أسطورة رأس الحمار المشهورة، زعموا أنه يظهر لبعض الناس ليلة القدر رأس حمار بلا جسم فيقول له: قل ما تتمنى أحصله لك. فاتفق أن تعرض لرجل معروف بالجبن فقال له: قل ما تتمنى قال: أتمنى أن تخرج عني فورا فلا تراني ولا أراك فأرسلها مثلا».
وفي محور «رمضان ومشكلة ثبوت الهلال»، استشعر المحاضر معاناة الموريتانيين من قضية ثبوت رؤية الهلال ودخول الإذاعة على الخط في مجتمع الستينات، وإشكالية اعتراف علماء البدو بتلك الآلة، مضيفا أنه تم اليوم تجاوز تلك الإشكالية بفضل الوعي المدني».
وفي معالجة طريفة لظاهرة اللحية الرمضانية أكد محمد فال ولد عبد اللطيف:
أما اللحية الرمضانية فهي لحية مؤقتة لم تأت للتلبيس ولا للتدليس، تنبت في سرار شهر شعبان وتنمو مع أيام رمضان وتحصد ضحوة أول يوم من شوال. إنها، حسب عبد اللطيف، «لحية موسمية مؤقتة أطلقت تماشيا مع قدسية الشهر المعظم أطلقها صاحبها برسم ذلك كما يقلع المترفون في هذا الشهر المبارك عن الربا والزنى والإثم والعدوان ومعصية الرسول، حتى إذا ولى شهر رمضان وطارت ملائكة ليلة القدر وروحها إلى حيث شاء الله طارت اللحية كذلك إلى حيث شاء الله ورجع المترفون والمخلطون إلى ما عودوا عليه أنفسهم قبل رمضان ثم استأنفوا العمل، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم».
وقال «أن للناس في لحاهم مذاهب شتى، فمنهم الحالق المنْهِكُ الذي لا يبقي ولا يذر ما عرفه الناس بلحيته ولا شارب ولا رآه كاذب ولا صادق كذلك، فقد خصص للشارب وأخته اللحية نصف ساعة من وقته الثمين كل صباح، يمضيه لإزالة ما أنبته الله بالليل. ومنهم المعفى المرسل، يضيف عبد اللطيف، من ألقى للحيته الحبل على الغارب فطالت واسْبَكَرتْ وتمددت عرضا وطولا ما شاء الله لها أن تتمدد ثم تجعدت فملأت بين السحر إلى النحر فكست صاحبها هيبة ووقارا، ما عرفت مدية ولا موسى طول دهرها. ومن الناس من يشذب لحيته فيصير لا حالقا ولا معفيا منزلة بين المنزلتين، يأتيها من هنا ومن هنالك حتى لم يغادر منها إلا الشيء القليل أشبه ما يكون بهذه الأعشاب القصيرة التي تنبت في حمل السيل حين يمر بالقيعة الأجادب، ومنهم من يدع من لحيته قدر الهلال يتكاذب الناس هل هو ابن ليلة أو ليلتين، وربما غيم هذا الهلال في تجاعيد الجسد أو النباتات الفطرية».
ومن غرائب الملتحين من يحدث لحية يصبر عليها السنة والسنتين فيعرفه الناس بها ويألفونه بحيث تكون جزءا لا يتجزأ من شخصيته المحترمة ثم يصبح يوما من الأيام وقد أطعمها الشفرة، فيظهر للناس بغتة فيفرون منه أول وهلة قبل أن يعرفوا من هو وأين يمضي.
و«كذلك الرجل، يقول عبد اللطيف، يعرفه الناس حليقا طليقا ويشتهر بذلك في أسواق المسلمين ويعامله الناس على ذلك الأساس ثم يغيب عن الأعين برهة من الزمن ثم يظهر لهم بغتة بلحية من لحى ابن الرومي، فلا يكادون يعرفونه إلا بعد التوسم والتوهم، يقولون أما اللمة فلمة فلان وأما هذه اللحية وهذا الشارب فلا نعرفهما، وربما قالوا: والله لقد جُنّ الأعور بعدنا».
القدس العربي