لم تكن بتلميت المنعزلة بخصائصها الثقافية والتاريخية والتي شكلت رافدا من روافد العلم والثقافة في بلاد شنقيط سوى مدينة صغيرة بعمرانها كبيرة بمعناها ومبناها , صارعت دائما رغم الإكراهات السياسية على أن تبقى عاصمة للثقافة الموريتانية محتفظة بأكبر كنوزها .
شكل معهد بتلميت شمعة جديدة للهوية الشنقيطية , كأول مؤسسة للتعليم العصري في البلاد.
استطاع أساتذته الذين مثلوا كوكبة من خيرة أعلام البلد حينها أن يخرجوا جيلا من الطلبة أصبحوا سفراء داخل الوطن وخارجه , لأنه تميز بعزفه على سنفونية التمييز الإيجابي , مابين الطلاب القادمين من مختلف الولايات , وحتى من البلدان الإفريقية المجاورة.
ففي أحد فصول المعهد المنهارة اليوم أستمع الطلاب بتمعن وإنصات إلى الشيخ محمد ولد أبو مدين وهو يجول بين متون الحديث وأسانيده , أو إلى الشيخ محمد عالي ولد عدود و نجليه محمد يحي ومحمد سالم وهم يفصلون وينيرون طريق العلوم , أو استمعوا إلى إسحاق ولد الشيخ سيديا أو المؤرخ الكبير المختار بن حامدن أو الدنبجة ولد معاوية أو الدكتور محمد المختار ولد أباه أو العلامة حمدا ولد التاه.
وقد شكل إغلاق معهد بتلميت واستبداله بالثانوية نظرا لما يحمله من الدلائل نوعا من الظلم والقضاء على هذا الصرح العلمي الذي حمل جزءا هاما من تاريخ هذا البلد, فكان يمكن أن ينافس هذا المعهد اليوم الزيتونة أو الأزهر.. هي إذا سنوات من التاريخ الحافل بالعطاء العلمي والثقافي عاشتها هذه المدينة تحت ظل هذا المعهد الذي ساهم في جذب الموريتانيين من كل البقاع للتحصيل والمساهمة لاحقا في بناء موريتانيا .
ليتم تحويله فيما بعد إلى ثانوية بتلميت , واليوم يتحدثون عن تحويله إلى مدرسة ابتدائية “لحواش” وروضة للأطفال , لكن لنقف لحظة مع هذا.. مابالهم؟ ألا يقدر هؤلاء أهمية المعالم خصوصا تلك التي استطاعت أن تكون رمزا للهوية وصانعة للمجد ونبراسا لتلك الأجيال التي حافظت على السمعة والهوية .
فقط يمكنكم أن تنهبوا من المعونات الداخلية والخارجية ما شئتم , وتبنوا لكم من الشقق والعمارات ما شئتم لكن حرام عليكم طمس هوية هذه المعالم والمساهمة في اندثار حضارة هذه المدينة فلا نملك شيئا لنتفاخر به سوى بقية مما تركه لنا هؤلاء العظماء .
أين أطر هذه المدينة وأين بلديتها , وأين أصحاب الضمائر , يجب أن تتدخلوا إنصافا لأولئك الأجيال الذين يحاول البعض ظملهم والبطش بهم بأيديكم .. أفيقوا إنهم يهدمون مدينتكم , إنهم يطمسون هويتكم بفكر استورده بعض رجال أعمال المدينة . إنها ليست نهاية القصة بل ليست بدايتها قبل فترة قصيرة سمعنا الأحرار من المدينة يؤبنون “جامعها العتيق” وقبلهم النساء يندبن “مدرسة أبناء العرفاء” حيث درس المختار ولد داداه , والوافدون الجدد يرقصون فرحا بأن “المدرسة رقم2” تحولت إلى بناية شاهقة وغدا الصبية يصلبون على جدران القلعة “اديار النصارى”.
ماذا بقى من تاريخ المدينة سوى ذكريات خاطفة ستتحول يوما من الأيام إلى أحلام إن استمرت معاولهم وجرافاتهم في التحرك إلى الأمام , سيصيبنا كل هذا بفقدان الذاكرة , فلا نتذكر “فور ولد مجبور” ولا “مرصت بكر ماصل” ولا أزقة السوق الضيقة , حتى طريق الأمل فقد مساره , والمدينة هي الأخرى تأخذ منعرجا يحمل من المآسي ما يحمله منعرج “آجوير”.
اتركوا لنا مدينتنا بتاريخها ومعالمها وهويتها وحضارتها وارحلوا إن شئتم.
الكاتب الصحفي: عبدالله ولد العتيق