ذات مساء قادني فضول التحقيق ونشوة المغامرة والبحث عن مباشرة الحقيقة من غير رتوش إلى أن أقرر بنفسي ودون أي وسيط دخول ذلك العالم المظلم الخفي، الجانب المسكوت عنه من واقع روصو، والبركان الملتهب الذي يكاد يُغرق المدينة في صمت.. إنه عالم البغاء والفساد والإفساد الأخلاقي.
ونظرا لخطورة الملف وتنوع الضالعين فيه وقوة نفوذ بعض رواده كان الموقف يقتضي التحلي بكثير من العزم والحزم، والتظاهر بكثير من السذاجة، والصبر على صحبة قوم ألفوا المذلة والرذيلة فماتت منهم الضمائر وعميت القلوب.. كان دليلي في تلك الرحلة الطويلة رجلا ينتمي لأسرة ضربت أطنابها منذ عهد بعيد في جذور المحافظة، وكانت محط ركاب المتعلمين، غير أن تقلبات الأيام وجور الدهر رمى به في مهاوي الردى وقذف به في مستنقع الرذيلة.
انطلقت رحلتنا بين أزقة الصطاره ومنازل انجربل وشوارع أسكال، فشربنا كؤوس الشاي معا، وشملتنا مجالس الأنس واللهو بعيدا عن ترصد الرقباء وهمس الوشاة، كنا نتمايل طربا على أنغام محجوبة بنت الميداح وهي تردد بصوتها الشجي في مقام لكحال:
يامس تل اعلا اربيب * وذني ذي والله
ألّ سمعت يا ادنيب * ردّ اللــــغـو إلاه
0 0 0
خالك حد اڭبيل فصّل * شفتو مرّ تـــاڭ
درتو من لخلاڭ ينصل * واب من لخلاڭ
وكنا على تلك الشاكلة المنحرفة نستحضر قولة جميل بن معمر:
فيا ليت كل اثنين بينهما هوى * من الناس والأنعام يلتقيان
فيقضي حبيب من حبيب لُبانة * ويرعاهما ربي فلا يُريان
وإن كان الشاعر العذريُّ أرهف منا حسا وأبعد عن مواطن الشبهة.
ومع مرور الليالي ظل زميلي يزداد ثقة بشخصيتي القوية وإعجابا بـ "فتوتي" حتى تبددت الشكوك من أغوار صدره، فقد كنت "لِهبيّا" مفتوح أزوان ولي معرفة بأيام العرب ومغامرات الصعاليك وأخبار بني عذرة:
خبيرٌ بنو لِهب فلا تك ملغيا * مقالة لِهبيّ إذا الطير مرت
وكنت أكثر من ذلك (وهو سر تميّزي) خبيرا بأدواء النساء، أميّز بين أصنافهن، وأنافس الفارس الشاعر عنترة ابن شداد حتى تمكنت من تحطيم نظريته وكسر قاعدته المشهورة:
فإن تســألـوني بالنســـاء فإننـي * خبيــر بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله * فليس له من ودهن نصيب
لقد أضحت الأبواب مشرعة أمامي فبدأت العروض تنهال علي من كل حدب وصوب، اكتشفت حينها ما لم يكن يخطر لي ببال، حيث تبين لي أن زميلي يعمل لصالح جهة رسمية (أتحفظ على ذكرها حتى لا تسقط من عيون العامة) تستخدم الوقوع في شرك الرذيلة وسيلة لاستقطاب العملاء، فالغاية في نظرهم تبرر الوسيلة.
كان زميلي ذا علاقات واسعة بمختلف الشخصيات، من علية القوم وكبرائهم حتى دهماء الناس وعامتهم، يظل متنقلا بين المكاتب والأزقة يُحيك خيوطه ويدبر "شؤونه"، وقد حباه الله بحيوية البدن ونشاطه وخفة الروح وملاحتها مما مكنه من القدرة على إنجاز مهامه بكل سهولة ويُسر ودون ريبة أو شك.
وذات روحة عرض علي زميلي ـ من باب الهديّة قال بنّه ـ أن يوفر لي في أحد المنازل الفخمة وسط المدينة إحدى "الشخصيات" بالمواصفات التي أريد وفي المكان الذي أود، وبعد أخذ ورد تخلصت من إحراج الموقف دون أن أتلطخ بوحل الجريمة، ولكنني تعلمت الكثير واطلعت عن كثب على ما كنت أسمع عنه وأعده من عالم الأساطير ونسج الخيال.
هنالك تعلمت أن الطبقية والتفاوت والتنوع والتنافس صفات تشمل مختلف جوانب الحياة حتى طرفها المظلم.. تعلمت أن التهميش والإقصاء والمحسوبية والنفوذ توجد وبكثرة في ذلك العالم الفاسد.. تعلمت أن المرأة الجميلة ليست طيبه دائما ولكن المرأة الطيبة دائما جميلة.. تعلمت وأدركت أن ما نطالعه على صفحات المواقع من مداهمات لأوكار الرذيلة صورة بسيطة وهامشية جدا مقارنة مع حقيقة الملف، تقتصر في أغلبها على شُذّاذ الآفاق القادمين من وراء النهر.
كل ذلك نتبيّنه سويّا في ثنايا البلاغ القادم.. أسبوعكم مبارك وسعيد.
محمد حامد عبد الله
يتواصــل....