في عاصمة كنواكشوط ، لم يعد غريبا أن تجد أطفالا صغارا يتوجهون صباح كل يوم الى مكبات النفايات بدل الذهاب الى مقاعد الدراسة. فعوامل مثل الفقر والحرمان وغياب سلطة الابوين جعلت أكثر من 27 في المائة من أطفال موريتانيا يتسربون من المدارس وينخرطون في مجال العمل ،في تفشي صريح لظاهرة عمالة الاطفال بين الموريتانيين وخاصة المنحدرين من طبقتي الزنوج والارقاء السابقين.
"آمادو" واحدٌ من عشرات أطفال نواكشوط الذين دفعتهم ظروف عائلاتهم المختلفة الى العمل في مجال "أتكوليب" ،وهو مصطلح محلي يطلق على جمع الخردة والعلب البلاستيكية من أكوام النفايات لبيعها لشركات محلية تقوم بإعادة تصنيعها وبيعها لاحقا في الأسواق.
التقينا "آمادو" عند مكب نفايات "كارفور شتدو" جنوب العاصمة نواكشوط، حيث المكان المفضل بالنسبة له لجمع ما تيسر من نفايات صالحة للبيع.
هنا في هذا المكان تزكم رائحة النفايات الأنوف، لكن آمادو ورفاقه لا يبالون بالأضرار الصحية الناجمة عن ذلك، فالأهم بالنسبة لهم هو الحصول على وزن معتبر من الخردة التي يباع الكيلوغرام الواحد منها ب1000 أوقيه، أي ما يعادل 3 دولار آمريكي.
ويقول "آمادو" ان رحلة شقائه اليومية تنطلق من منزل أهله بحي "كبت المربط" الفقير بمقاطعة الميناء ، وتأخذه الى مكبات النفاية القريبة، وتتواصل حتى المساء على امتداد الشوارع المؤدية الى سوق المغرب مكان بيع حصيلة يوم شاق من جمع النفايات.
آمادو" الذي وافق على الحديث معنا مقابل 600 أوقية(2 دولار آمريكي ) ،أخبرنا بما قال انه سر خطير يخفيه أغلب أصحاب المطاعم الشعبية بنواكشوط.
ويضيفُ "آمادو" والبسمة على محياه أن جميع علب مشروب" بيصام "المحلي التي يبيعها أصحاب المطاعم مصدرها القمامة ،حيث يبيعها رفقة زملائه من "الكولابة" مقابل 10 أوقية لتباع لاحقا للزبائن بعد تعبئتها بالمشروب بمبلغ 100 أوقية.
ولا يخفى "آمادو" سعادته بالحديث معنا مقابل عدم الحديث عن عائلته و بوحه بالأسباب الشخصية التي جعلته يترك مقاعد الدراسة وينخرط في سوق العمل ،مكتفيا بالقول بلهجة حسانية محلية (ذاك مايعنيكم) أي ليس من اختصاصنا.
وبابتسامة مؤقتة تخفي واقعا مريرا ،وبنظرات حائرة تُظهِرُ براءة مغتصبة ،استقبلنا الطفل "محمد" عند نفس المكب، حيث تحدث بإسهاب عن عمله اليومي في البحث عن القمامة ،فالظُروفُ التي قادَتهُ الى هنا تتشابه كثيرا مع ظروف رفيقه "آمادو" مع اختلاف قليل في التفاصيل.
ويُلفتُ "محمد" الانتباه الى أن عمله في مجال "أتكوليب" يأتي بمباركة عائلته التي يعملُ أغلبُ أفرادها في نفس المجال.
ويقول" محمد" انه لم يذهب الى المدرسة يوما ،لكن سبق و أن درس في المحاضر القرآنية لفترة قصيرة، مُؤكدا سعادته بعمله في مجال "أتكوليب" فمنهُ يشتري الأكل والثياب، كما أن عائداته تُغنيه عن التسول واستعطاف المارة على حد تعبيره.
وتعليقا على ظاهرة "الكولابة" في موريتانيا، يقولُ الاخصائي الاجتماعي "الدو ولد أحمدناه" ل"أصوات الكثبان" ان سيطرة مجموعة المعتقدات الاجتماعية المتعلقة بعدم جدوى الاستثمار بالتعليم لدى الطبقات المسحوقة في موريتانيا وعدم متابعة الأطفال لدراستهم بسبب الرغبة في تعليمهم مهنة تؤمن مستقبلا آمنا لهم ، أسباب من بين أخرى جعلت آلاف الاطفال يذهبون الى سوق العمل ولم يبلغوا بعد عامهم العاشر.
ويرى " ولد أحمدناه" أن عوامل أخرى تسهم في دفع الأطفال للعمل، منها الحجم الكبير للأسر و الفشل المدرسي و الهجرة من البوادي إلى المدن و ارتفاع معدلات الطلاق في المجتمع الموريتاني ، هذا بالإضافة الى تزايد ظاهرة الامهات العازبات اللاتي يدفعن بأولادهن للعمل بغرض مساعدتهن في توفير ما تيسر من متطلبات الحياة.
وفي العام ،2014 أعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية و الطفولة و الأسرة في موريتانيا عن اطلاق خطة رسمية تستهدف القضاء على تسرب الاطفال من المدارس وظاهرة عمالة الاطفال .
وتحدثت تلك الخطة التي ظلت حبرا على ورق، عن سعي الحكومة لتوفير تحويلات مالية للأسر الفقيرة لتشجيع الاهالي على المحافظة على دراسة أبنائهم وتوفير النقل وتوحيد الزي المدرسي.
وكانت موريتانيا من أوائل البلدان الافريقية التي صادقت على المواثيق الدولية التي تجرم عمالة الأطفال، غير أن عدم تطبيق تلك القوانين جعل جيوش العمالة الصغيرة والمنهكة في ازدياد، حيث باتت تُوَلِدُ مشكلات اجتماعية أخرى ،مِثْلَ جُنوح القُصّرْ وانتشار استعمال المخدرات وارتفاع معدلات الجريمة .
أصوات الكثبان