نواكشوط ـ «القدس العربي»: لا يخلو بلد من معارك فكرية ومجتمعية بين جهاته إذ لكل جهة ثقافتها وخصوصيتها وتفضيلها لنفسها على الجهات الأخرى.
والأمر في موريتانيا أشد؛ فالمعارك بين أهل الجنوب مستمرة حامية الوطيس مع أهل الشرق ومع أهل الشمال، ولتلك الحروب مجالاتها الأدبية والثقافية وحتى المتعلقة بالطباع كسرعة الغضب وبرودة الأعصاب.. ولهذه الحروب مواسمها ومجالسها أيضا.
غير أن المعركة التي لا تضع أوزراها أبدا، هي معركة المفاضلة بين «كسكس» ثريد الشمال، و«العيش» وهو عصيدة الجنوب المقدسة الشافية؛ إنها حرب بين أنصار أعرق وجبتين في المائدة الموريتانية.
وقد وفرت مواقع التواصل الإجتماعي بانسيابية التعاطي الذي تتيحه، مجالا واسعا لمعركة «كسكس والعيش»، فلكل من الوجبتين مدونوها ومغردوها بل وصفحاتها الفيسية وحساباتها التويترية الخاصة.
وكثيرا ما سبب مسمى «الكسكس» وهو التسمية المغاربية للثريد، إحراجات في بعض الحفلات التي يحضرها المشارقة إذ أن المشارقة يطلقون هذه التسمية على أمر آخر.. وسبق أن انزعجت سيدة عراقية من هذه التسمية عندما سألت موريتانيا التقت به صدفة في مطعم باريسي عن الوجبة المفضلة في موريتانيا فأجابها ببراءة مؤكدا أنها «الكسكس»، فرمته بالصحن وكاد الأمر أن يصل إلى العدالة.
وقد أبدع الأديب الموريتاني البارز محمد فال عبد اللطيف في رسالة أدبية راقية خصصها لمناظرة بين «كسكس» «والعيش»، قال أهل «العيش» في مستهلها: «العيش أفضل الأطعمة على الإطلاق لأنه مشتق من العيشة. قال تعالى «فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ»، ولا شك أن هذه المزية لا يشاركه فيها «كسكس». وقال أهل الكسكس: «جل معتمد حجج أنصار العيش هو أنه مشتق من العيشة، وإذا سلمنا جدلا أن العيش مشتق من العيشة فإن العيشة لفظ عام على جميع المعيشات والمعيشات منها ما هي راضية ومنها ما هي ضنك، قال تعالى «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا»، فبان أن العيش هو أخس الأطعمة ، وهذا بخلاف الكسكس فهو الثريد الذي هو طعام الملوك والسادات في الجاهلية والإسلام».
و رد أهل العيش قائلين: «نحن لا نسلم أن الثريد مرادف للكسكس بل الذي تدل عليه عبارات المعاجم أن الثريد هو كل ما طبخ بلحم سواء كان كسكسا أو غيره. فحجج أنصار الكسكس مبنية على غير أساس، وبيان ذلك أن الثريد لفظ عام على الكسكس والهريسة والأرز ونحوها، ومن المقرر عند أهل العقول أنه لا إشعار بالخاص بوجود العام، ونحن نرى أن المراد بالثريد في الحديث قد يكون أرزا أو هريسة أو غير الكسكس على كل حال، وأما الكسكس فالأقرب أنه المراد في قرآن مسيلمة الكذاب حيث يقول «والزارعات زرعا، فالطاحنات طحنا، فالعاجنات عجنا، والثاردات ثردا، قمحا وشعيرا».
فرد أهل العيش سريعا بقولهم: «إن مقارنة اللحم تكسب الكسكس فضلا لم يكن له لما تقرر أن مجاورة أهل الفضل لا تزيد الأراذل إلا رذالة في أعين الناس، مع أن مقارنة الكسكس للحم تفيده لكن لا نسلم أن اللحم ذو فضل حتى تكون مقارنته تكسب فضلا، كيف واللحم بطيء الانهضام وإدمانه يورث قسوة القلوب؟».
فسارع أهل الكسكس ليقارعوا أهل العيش قائلين لهم: «الكسكس يزيد في الذكاء كما جزم بذلك طبيب العرب وحكيمها الحارث بن كلدة لما سأله كسرى عن سبب ذكائه، وهذا بخلاف العيش فإنه يورث البله ولاسيما إذا كان ميدوما بلبن البقر وقد قالوا شرب لبن البقر وتخطي زبله يورثان البله، ومنها أن صاحبه لا يحدث أي صوت في الأكل يزعج الآخرين بعكس العيش، ومنها أن القصعة منه يمكن أن يأكل منها الفئام من الناس من غير أن يوسخ بعضهم بعضا وليس كذلك العيش».
عبر هذه المحاججات الطريفة تستمر المعركة والتحارب، وتتواصل المفاضلة بين أهل الجنوب الموريتاني المتمسكين بوجبة «العيش» وأهل الشمال الموريتاني المتبجحين بوجبة الكسكس التي لا يعدلها عندهم أي طعام.
عبد الله مولود