يلاحظ المرء وهو في حيز المعترك الرمضاني قلوبا خاشعة غير القلوب التي عهدها في غيره وأبصارا ترقب السماء بإلحاح كأنما أصحابها يودون لو أمطروا ببركات تقيهم أعباء العبادة في غير رمضان فتتحق لهم سنية غفران الذنوب التي وعُد بها المتقون إن هم أخذوا بأسبابها في هذا الشهر الفضيل فتتزاحم الأجسام على مقارعة الصفوف الأمامية وتخشع القلوب ليتجلى خشوعها في انهمار الأعين بكاء بل وعويلا حتى ، وتكثر الصدقات لتكون مسطرة لصدقية نزول البركات من السماء في هذا الشهر وتسموا الأخلاق إلى حد أنه لاتوجد عصبية ولا معاملة سيئة من الكل ، لكن مايلبث هذا الضيف الكريم أن يستعد للرحيل حتى ترجع النفوس لسابق عهدها مما هو مجاف للفطرة أحيانا ولعل المناظر لواقع المجتمعات المسلمة يعي هذا الأمر بل ويلمسه في ذويه وأصدقائه إن لم يكن في نفسه ـ وهي الأكثر ـ فالتدين هنا أصبح موسميا مرتبطا بشهر رمضان واحده وكأن هؤلاء يفككون جسد الشرع فيأخون منه مما يشتهون والغريب أيضا أن الأمر ليس خاصا بمجتمع مسلم معين بل أصبح ظاهرة إنتربولوجية عامة في الأوساط المسلمة لتخلف هذه الظاهرة في نفوسنا أسئلة من قبيل مثلا : ماهي الدوافع والأسباب من وراء هذه الظاهرة ؟ وماهي الحلول المناسبة لجعل التدين وسيلة توصل القلوب في رمضان وفي غيره لمرتبة اليقين الروحية وليس العبادة المظهرية الموسمية ؟
إن الأصل الذي علينا أن نستحضره دوما في عبادتنا هو أن المواسم كلها للعبادة فليست هناك مواسم للمرح الأبدي كما أنه أيضا ليست هناك مواسم مخصوصة للرهبانية ومجانفة الدنيا ولذاتها ، لأن الصراع الدائر بين المواسم والأعمار يحتم علينا أن نخلق جوا إيمانيا تعبديا خالصا في كل المواسم ـ بنهج وسطي طبعا ـ وهذا ماتدعوا له السنة الربانية (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) {الذاريات الآية :56} وقوله (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة){البينة الآية :5}
فالمقصد هنا من العبادة مقصد تربوي بحت وهو بلوغ النفس مرتبة اليقين التي هي أعلى المراتب الروحية ، فبها تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك وذلك من خلال عمق إيمانك بالآيات والدلائل الكونية الفريدة في هذا العلم السيار ويقينك التام بالأركان الستة التي تقوم عليها المنظومة الشرعية بشقيها العقدي ، والسلوكي ، ومن هنا فإنه لامعنى للإرتباط بمفهوم التدين زمانيا فقط بحيث نعمر المساجد في رمضان ونقبل إلى الصلاة والصدقة ـ وإن كان أحسن من لاشيء ـ ونهجر كل هذه الخصال الحميدة في لمظة وقت من مغادرة هذا الشهر الكريم ، ومثل هذا التدين الجغرافي الذي نلمسه ممن يتوطنون الأماكن المقدسة فعبادتهم مربوطة بالمكان والزمان فقط وبالتالي لا تؤتي أكلها التربوي الذي من أجله شُرعت أصلا فإذا ماخرجوا من البيئة والمكان ولوا على نهجهم الفسقوي الأول حتى يعود الموسم أو يعودوا هم للمكان كرَّة أخرى حتى أصبح الأمر ثقافة ونمطا متبعا لكل المجتمعات المسلمة ـ يستوي في ذلك العالم والجاهل الذكر والأنثى الكبير والصغير ـ وهذا يدلل على عمق الخلل في تصورنا لمفهوم التدين وهذا الخلل طبعا يختلف باختلاف تنشئة الإنسان سيسيولوجيا وتمايز المجتمعات ثقافيا وقربها من النص المجرد عن التأويلات والبراهين المادية المعاصرة التي حرفت العقول عن المغزى الحقيقي من تنشئتها أصلا ، ولذلك فإن هذه الظاهرة ظاهرة مركبة، ففيها عناصر من ظروف العصر، وعناصر من حال الثقافة الإسلامية عند أصحابها، وأخرى من فهم طبيعة هذا الدين المتكامل، وغير ذلك.......
وبسبب هذا التركيب يقول "نبيل فولي "لن نستطيع رد الظاهرة برمتها إلى سبب واحد، بل هناك أسباب عدة، لعل أهمها ما يلي:
- دخولنا في موسم العبادة دون وضوح الهدف الذي نستهدفه من التزامنا فيها بما أُمرنا به من الطاعة وهجر العصيان، ويمكن أن يكون هدفنا هنا ما يأتي:
أ- مجرد إعلان الخضوع والتسليم لله فيما أمر، مع الاستعداد لأن نسحب هذا الأمر على بقية مناحي حياتنا وأيام عمرنا.
ب- بلوغ "المغفرة" من الله تعالى حتى تكون قلوبنا أكثر عافية وقدرة على الاستمرار.
ج- استئناف الطريق إلى الله - تعالى -، على أن يكون الموسم هو البدء وما بعده استمرار له، لا أن يكون الموسم بدءًا للعودة إلى الله وختامًا لها معًا.
2- العيش مع العبادة في شكلها وهيئتها، دون معايشة لها في روحها وحقيقتها، فالقيام طويل، ولكن الخشوع قليل،والصيام جوع وعطش، ولكن الجوارح تَسرح حرة حيث شاءت، وقراءة القرآن كثيرة، ولكنها رطانات وسباقات للوصول إلى "الختمة"، وأصوات متداخلة تخطئ القراءة المتدبّرة الواعية.
3- تميٌّز أيام المواسم، وكثرة البركة فيها دفعتا الناس في حال السلب إلى الفصل بينها وبين بقية شهور السنة، فانتزعوا الأيام من سياقها الزمني الذي رتبها الله عليه، ونسوا أن تميز هذه الأيام نابع من الخير الذي وضعه الله فيها، ومن الأثر الكبير الذي يمكن أن تتركه في حياة صاحبها طوال العام، وربما طوال العمر.
والحقيقة أن أسباب هذه الظاهرة تختلف باختلاف المجتمعات وثقافتهم وإن كانت الأسباب التي ذكرنا مُقربة ـ ولاشك ـ ولاكنها ليست حاصرة أيضا .
ولعل الحل الوحيد لهذه الظاهرة هو أن نعتبر أن شهر رمضان الكريم بنفحاته الروحية هو بمثابة ورشة عمل تعبُّدية سنوية مُتميّزة؛ لتدريب المسلم دوريًّا على تجديد همَّته الروحية مرةً كل عام؛ بحيث يأتي تكثيف العبادة في هذا الشهر مُحصّلة طبيعية لورشة عمل تجديد الوعي الإيماني، وتعميق السلوك التعبُّدي للمسلم، بما لهذا الشهر الفضيل منخصوصية عند الله تعالى على قاعدة ( شهر رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ){ البقرة الآية: 185} حتى يحصل اليقين الموصل لا استمراية العبادة حتما وليس على قاعدة "اعبد ربك في موسم واحد أو في شهر واحد" .
الباحث والمفكر الشاب: محمد سالم سيدامين