لَقِيتُ يوما سجينا تَيَّارِيًّا سابقا ـ وقد يعرف البعض ما ينبتُ تحت لهيب العداوة المفترضة بين السجين والسجان من تقدير واحترام ـ وأثناء تبادل التحية بشيء من الدُّاعبة، قال لي: "ذَاكْ كَامَلْ الْجَاكُمْ عَنِّي ذِيكْ السَّاعَه وَللهْ أَلَّ حَكْ كَامَلْ، أُلَاهُ شِ كَاعْ مَنْ ذَاكْ الْكَنْتْ وَاحَلْ فِيهْ أَيَكْوْلَانِي عَنْ ذَاكْ الْكَلْتُ فِي المُرَافَعَه كَدَّامْ المَحْكَمَة عَنُّ مَاهُ حَكْ ألَّ آنَ هُوَّ الكَاذَبْ وَلَّ فَاصَلْ أَفْتَسَمْحُولِي"/..
حدثني مسؤول قضائي رفيع سابق عن ملف كبير شهير، من ملفات "العصر" شهد عليه بحكم وظيفته وقتها، شمل أشخاصا من محيطه العائلي العام، فقال لي إنه رغم ما أطلع عليه بحكم مركزه الوظيفي حول جوانب حددها من الملف، كان يستبطن اعتقادا بأنها إنما كانت وقائع مفبركة قامت بها السلطة لإقناع الرأي العام، ولتوريط بعض الأشخاص، حتي لقي من وصفهم بـ "التَّرْكَه" في وقت لاحق بعد انقضاء ذلك العهد كله وحدثوه بألسنتهم أن كل ذلك كان صحيحا/..
أحد أبرز الصحفيين الموريتانيين، وأوثقهم دراية بالملفات القضائية والأمنية وأوفرهم حظا من المهنية قال لي مرات إنه ينتظر دائما الروايات الرسمية لأن التجربة علمته أنها أكثر مصداقية من غيرها/..
ملفات كثيرة ـ وأقول كثيرة فقط ـ عرفتها هذه البلاد عبر تاريخها المعاصر من الاستقلال إلى الآن، كانت في لحظة تحريكها وفق ما ملأ الدنيا من روايات المعنيين بها وأنصارهم مجرد تلفيقات وفبركات وتصفية حسابات، ثم تنقلب بعد ذلك، وفي لحظة شهاداتهم على التاريخ نضالا مشرفا يحكون منه تفاصيل ما كان تلفيقا وفبركة كحقائق تاريخية تظهر شجاعتهم، ووطنيتهم وسريتهم.. ـ بُسطت عليهم فتنافسوها ـ
رجال كثيرون تحدثوا في ساحات المحاكم ببلاغة ونبرة صدق ينفون كل ما نسب إليهم، وتأتي صفحات الزمن الأخيرة فتثبثُ أحاديثهم، وأحاديث الرفاق صدق الرواية في الطرف المقابل..
بقدر مساحة لحظة الصدق والموضوعية والتجرد لدى المتحدثين عن تاريخنا "الملفاتي" يَثبتُ بالأثر الرجعي أننا نعيش من "لحظة المعرفة المفبركة" إلى "لحظة المعرفة الحقيقية" بمنطق: "الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ"..
تُفسر لي هذه القاعدة جانبا من مستوى التسامح الرفيع الذي نعشيه في بلادنا ـ فرغم "تاريخنا الملفاتي" الحافل الذي لم يسلم في الواقع من بعض التجاوزات ـ تتأسس العلاقة بين طرفي الملفات (المُحَقِّق ـ المُحَقَّقُ معه) على قدر كبير من الود والاحترام، في الغالب الأعم، ولكل قاعدة استثناء..
لكن العامة فينا تتعايش في أذهانهم مخرجات "لحظة الحقيقة"، مع مخرجات "لحظة الفبركة"، ويستمر من هذا التعايش الموقف السلبي من الفاعل في الطرف الآخر، ويزداد منه الموقف الإيجابي التقديري من الفاعل المقابل "الرواة الأبطال"..
هذا، وأزعمُ أن مستقبلنا سيثبت هذه النظرية: <<مِنْ لَحْظَةِ "الفَبْرَكَةِ" إِلَى لَحْظَةِ الحَقِيقَة>> كنظرية معرفية يسير وفقها تاريخنا، فلا تذهبوا بعيدا في "لحظة الفبركة"..