كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ـ وهم أفضل البشر ـ أصحاب حِرَفٍ، فقد مارسوا النجارة والحدادة والرعي، والنَّسيج، وغيرها..
وكان الصحابة رضوان الله عليهم أرباب حِرَف، فكان منهم البَزَّار، والمزارع والحَمَّال، والعامل في الأديم والتاجر..
وتُطلعنا القاب أجلاء علماء السلف الصالح على الحِرف التي كانوا يتعاطونها، فمنهم الآجُري، والباقلاني، والجصَّاص والفرَّاء، والزَّيات، والسَّمان..
وكثيرا ما وجد أهل العلم والشعر والأدب في الحِرَف مُتحولا، إذا قلاهم الزمان وأهله، ومن أولئك الشاعر المصري الصعلوك جمال الدين أبو الحُسين الجَزَّار، الذي تحول إلى الجِزارة حين كسد الأدب في زمانه ورخص الشعر، ولم يعد يغنيه من جوع، وكان يقول مُفاضلا بين الجِزارة والآداب، موغلا في هجاء أهل زمانه:
كيف لا أشكر الجزارة ما عِشْـ ـ ـ تُ حفاظا، وأهجر الآدابا
وبها صارت الكلاب تُرَجِّينِي ـ ـ وبالشعر كنت أرجوا الكلابا
وفي بلادنا الجأت صروف الدهر العلامة الموسوعي المختار ولد حامد رحمة الله عليه في فترة من حياته ـ على جلالة قدره في العلم ـ إلى ممارسة التجارة في السينغال، وقال بشأن ذلك من أبيات له في المقامة العُبيدية:
فإن ترني لدى الحانوت أشري ـ ـ به وأبيع من سقط المتاع
فإني سوف أنشد عند بيعي ـ ـ أضاعوني وأي فتى مُضاع
مُضَمِّنًا قول أبي عمر عبد الله بن عمرو ابن عثمان ابن عفان العرجي رضي الله عن جده:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ـ ـ ليوم كريهة وسداد ثغر
الشهادات المعاصرة لم تمنع بالجملة هذا التحول، وإن كانت لها "نفخة" كما قال القائل في معرض تنقيص لها، ولعله يصلح لتمثل أقوام:
لا تجعلنَّ بُلوغ "الدَّالِ" غايتكم ـ ـ إني لأخشى عليكم "نفخة" الدَّال
يقصد بـ "د" دال الدكتوراه..
وقد يجد المُتحولون من أصحابها في وصف الشيخ العلامة محمد الأمين آب ولد أخطور الشنقيطي رحمة الله عليه لها وصفا مطابقا للحال، فقد نُقل عنه قوله جوابا لسائل سأله عن شهادات الزُّور: "هي التي تنالونها من الجامعات"..