
ي لقائه الأخير مع ساكنة جكني، قدم رئيس الجمهورية قراءة موسعة لمعنى الفساد، معتبرًا أنه لا يقتصر على المال والإدارة العمومية، بل يمتد إلى الفساد الاجتماعي والأخلاقي والسياسي، الذي يشكل ــ بحسب تعبيره ــ الحاضنة الحقيقية للفساد المالي والإداري.
وأكد الرئيس أن مكافحة الفساد معركة لن تُكسب ما لم ينهض المجتمع بدوره في محاربة هذه الأشكال الأخرى من الاختلالات.
ومن بين الأمثلة التي ضربها الرئيس، توقف عند سلوك يبدو بسيطًا لكنه بالغ الدلالة: رمي القمامة في غير الأماكن المخصصة لها، واعتباره شكلًا من أشكال الفساد المجتمعي.
وهذا طرح مهم يُحسب للرئيس، لأنه يربط بين الثقافة المدنية والحوكمة السليمة.
غير أن هذا المثال يفتح بابًا على سؤال جوهري:
أين هي الأماكن المخصصة لجمع القمامة أصلًا؟
بعد مرور أكثر من خمسة أشهر على الاتفاقية المبرمة مع شركة أجنبية لتنظيف العاصمة، ما يزال معظم أحياء نواكشوط بلا حاويات حديثة مخصصة للنفايات.
ولا يزال وسط المدينة يعاني مكبات عشوائية تتجدد كل يوم، في ظل غياب شبه كامل للبنية الأساسية التي تجعل السلوك الحضري ممكنًا.
الأدهى من ذلك أن مؤسسات تربوية ــ ابتدائية وإعدادية وثانوية ــ تحولت إلى مكبات للنفايات، وهو مشهد يسيء بشكل مباشر إلى المدرسة الجمهورية، ويقوّض رسالتها التربوية والثقافية، ويبعث برسالة سلبية إلى التلاميذ عن النظافة والانضباط والاحترام.
معايير دولية واضحة… فأين نحن من الالتزام بها؟
تنظيف المدن ليس عملاً ارتجاليًا، بل يخضع ـ في كل التجارب العالمية ـ لدفاتر التزامات دقيقة تُلزِم الشركة المتعاقدة بعدة إجراءات، من أبرزها:
توزيع الحاويات على بُعد 150–250 مترًا بين كل نقطتين في الأحياء المكتظة.
جمع النفايات 1–2 مرة يوميًا وفق جدول ثابت تُلزم به الشركة.
تنظيف المدارس والمؤسسات العمومية يوميًا باعتبارها واجهة الدولة.
توفير فرق رقابة ميدانية وغرامات عند أي تقصير.
تنظيم حملات توعوية مشتركة مع البلديات لتعزيز السلوك البيئي.
هذه المعايير ليست ترفًا إداريًا، بل أساسًا لأي سياسة حضرية محترمة.
العدالة البيئية تبدأ من الدولة قبل المواطن
تحميل المواطن مسؤولية رمي القمامة في غير أماكنها خطاب صحيح من حيث المبدأ، لكنه يظل ناقصًا ما لم تتوفر البنية التي تجعل السلوك السليم ممكنًا.
ولا يمكن مطالبة الناس بالالتزام، بينما المدينة بلا حاويات، والمدارس نفسها تحاصرها النفايات.
محاربة الفساد الاجتماعي تبدأ من توفير الشروط التي تُسهِّل على المواطن أداء دوره، ثم تأتي مرحلة الوعي والتحسيس.
خاتمة
النظافة ليست مجرد خدمات بلدية، بل هي معيار حضاري ووجه من وجوه احترام الدولة لمواطنيها.
وليس من المقبول أن تبقى العاصمة، رغم الاتفاقيات والميزانيات، مدينة تبحث عن حاوية واحدة لائقة في محيط مدرسة رسمية.
إن دعوة الرئيس لمحاربة الفساد المجتمعي مهمة ومحل تقدير، لكن استكمالها يتطلب إصلاحًا جذريًا لواقع النظافة، حتى ينهض المجتمع بدوره على أسس واضحة… لا على فراغ.

.jpeg)
.jpeg)


.gif)
