
تم إفرازه في اللحظة الأخيرة لانطلاق أسطول الصمود الذي نظمه مئات من أحرار العالم تألموا لحال غزة. كان قبل ذلك قد قفل ميمما وجهه نحو غزة برا انطلاقا من تونس ثم ليبيا التي أوقف فيها؛ واقتيد رفاقه من فنادق مصر إلى مطاراتها.
أبحر بعد أن آثره إخوته الموريتانيون على أنفسهم؛ وكانوا زهاء خمسة عشر بطلا منهم المهندس والطبيب والناشط الجمعوي والنائب البرلماني والأستاذ الجامعي.
اقتاده الجيش الإسرائيلي إلى ميناء أسدود ثم إلى سجن النقب ثم إلى مطار إيلات. ثلاثة أيام ولياليها وهو مصوم لدى السجانين القراصنة. بيضة واحدة وبعض خضر فقط. شرابه مياه غير نقية.
تنقل محجوب الرؤية في فلسطين المحتلة؛ حتى القراصنة- الرسميون الذين اقتادوه من بحر غزة لم يكونوا قوات بحرية فقد شعروا بالدوار بشكل جلي وهم يقتادونه وزملاءه العشرين ونيفا على متن باخرة دير ياسين.
من الباخرة إلى الميناء تراءت له أبراج عسقلان فهمس في أذن رفيقه الجزائري بذلك ليرد عليه رفيقه بأنه يعتقد أنهم على حدود لبنان مع فلسطين المحتلة؛ وكان الحق مع صاحبنا.
غرّب عن غزة ثم شمّل عنها ثم شرّق ليسجن غير بعيد منها؛ وهو يسمع أزيز الطائرات التي تريد أن تكمل المائتي ألف طن من القنابل التي صبت هناك.
بات ثلاثين ساعة سجينا قرب غزة يحرسه جلادوها؛ بعد أن قضى شهرين يعد العدة لفك الحصار عنها.
ترك الأهل والخلان والولد والدنيا؛ وكان سيموت في البحر برصاصة في السدس الأخير من الليل شرق المتوسط تماما مثل سبعين ألف إنسان في غزة.
يعلم أكثر من غيره أنه يشارك في مهمة خطرة ويتعاطى مع أناس لاخلاق لهم؛ وهم يصمون الفضاء السمعي البصري الكوني بأول إبادة جماعية مباشرة في التاريخ.
زاره قبيل مغادرته السجن إلى تركيا دبلوماسي أردني بطلب من حكومة موريتانيا لحكومة الأردن.
كان من حظ محمد فال الشيخ أنه يتكئ على جرعة توكل تليدة وفروسية رضعها من ربيات علب آدرس؛ وأنه رهن نفسه لتمثيل شعب عربي إفريقي مسلم التصق بفلسطين مبكرا.
فهو حفيد فتى الفتيان؛ صاحب الگاف المشهور في شور "المگلمن" :
بداع اكبير ابمقام
لاه يبدع في المگلمن
يحذر يعرف عن گدامُ
خطري ول أدن علمن
مارس النضال في سن المراهقة في جامعة انواكشوط وتنشق مسيلات الدموع دفاعا عن قناعاته. ورضع القرآن رواية ودراية وترتيلا من أخواله الأماثل. وتربع في سماوات الإلقاء والإعداد والتحرير والتقديم نشرا وبثا في الإعلام الموريتاني.
انهال عليه الموريتانيون بالدعاء والضراعة وحين نجا من أيدي الطغاة استقبلوه عفويا استقبال الفاتحين؛ فقد غزت غزة أفئدة ومآقي البشرية ودخلتها قبل أن تخلد في التاريخ والجغرافيا والسياسة.
حين تجالس من سجنه جلادوا أهلنا في القطاع قرب القطاع؛ وجروحهم لما تلتئم بعد تشعر أن بطولة حفتك وأن شيئا منك انتمى ولو بشق كلمة إلى أنات وآهات وجراحات الكرماء المستضعفين؛ وأن رائحة "العيل" الزكية تفوح منه.
سنوات غزة الاثنتان اللتان ملأتا الدنيا جورا وظلما وموعظة وانكسارا وانتصارا؛ وغيرتا كوامن كل واحد فينا؛ وقع عليها محمد فال باسمنا هناك في سجن النقب بفلسطين المحتلة؛ ليعيد إلينا شتات أرواحنا المبعثرة على غزة.
إسماعيل يعقوب الشيخ سيديا