العقيدة الدبلوماسية الموريتانية من ثوابت السياسة الخارجية إلى تأطير الرؤية

اثنين, 15/12/2025 - 11:06

أثار تعميم صادر عن معالي وزير الشؤون الخارجية الموريتاني، دعا فيه البعثات الدبلوماسية إلى المساهمة في بلورة عقيدة دبلوماسية وطنية، نقاشًا  على منصات التواصل الاجتماعي، تراوح بين التساؤل المشروع والتأويل المتسرع، بل وصل أحيانًا إلى الحديث عن غياب عقيدة دبلوماسية من الأساس.

غير أن هذا الطرح يحتاج إلى قدر من التوضيح والتدقيق، لأن الامر  لا يتعلق بابتداع مفهوم جديد ولا بإقرار قطيعة مع الماضي، بقدر ما يهم تأطير  
(Cadrage)
 

ما هو قائم، وتوضيح ما ظل ضمنيًا في الممارسة الدبلوماسية الموريتانية.
فخلافًا لما  ذهب اليه بعضهم ، فإن السياسة الخارجية الموريتانية لم تكن يومًا بلا مرجعيات، بل قامت، عبر مختلف المراحل وتغيّر الأنظمة السياسية، على ثوابت راسخة لم تتأثر بتعاقب الحكومات ولا بتبدّل السياقات الإقليمية والدولية. وقد حافظت الدبلوماسية الموريتانية، في جوهرها، على منطق التوازن، واحترام الشرعية الدولية، وتغليب خيار الاستقرار، والحفاظ على هامش استقلال القرار الوطني.

وقد سبق لنا أن أشرنا إلى بعض ملامح العقيدة الدبلوماسية الموريتانية في مقالنا حول الحصيلة الدبلوماسية لسنة 2024، الذي نشرته جريدة الشعب، حيث توقفنا عند هذه الثوابت بوصفها عناصر بنيوية في الفعل الدبلوماسي، لا مجرد خيارات ظرفية مرتبطة بأشخاص أو لحظات سياسية عابرة.

و عليه فان ما  يُطرح اليوم لا ينبغي فهمه بوصفه بحثًا عن عقيدة مفقودة، بل باعتباره  تأطيرا  لتوضيخ. الرؤية .
. فالدول الحديثة لا تكتفي بامتلاك سياسة خارجية قائمة على الأعراف والتقاليد، بل تسعى إلى صياغتها في إطار مرجعي واضح، يضمن الاتساق والاستمرارية، ويُسهِّل نقل الرؤية من جيل دبلوماسي إلى آخر.

وفي هذا السياق، يجدر التذكير بأن معالي وزير الشؤون الخارجية الحالي محمد سالم ولد.مرزوك.
، منذ الأيام الأولى لتوليه مهامه، أعلن جملة من الأهداف ذات المدى القريب، كان من أبرزها بلورة إطار مرجعي  لعقيدة دبلوماسية موريتانية، إلى جانب المصادقة على النص المنشئ للأكاديمية الدبلوماسية الموريتانية، بما يعكس وعيًا مبكرًا بأهمية الإطار المؤسسي والفكري للعمل الدبلوماسي.

وقد أسهمت الأكاديمية الدبلوماسية الموريتانية، عبر ملتقياتها ومحاضراتها وبرامجها التكوينية، في رسم الخطوط العريضة لهذه العقيدة، من خلال تعميق النقاش حول ثوابت السياسة الخارجية، وإبراز خصوصية الموقع الجيوسياسي لموريتانيا كحلقة وصل بين المغرب العربي، والساحل، وإفريقيا الأطلسية، فضلًا عن ربط العمل الدبلوماسي بقضايا الأمن، والتنمية، والدبلوماسية الثقافية.
لقد شكّلت الأكاديمية، في هذا الإطار، فضاءً للتفكير الاستراتيجي، لا مجرد مؤسسة تكوين تقني، وأسهمت في ترسيخ مقاربة تقوم على الاستباق والاتساق بدل الارتجال وردود الفعل.

أما دعوة البعثات الدبلوماسية إلى المساهمة في بلورة العقيدة الدبلوماسية، فهي خطوة منسجمة مع منطق التشاور ، لأن هذه البعثات تعيش الاحتكاك اليومي مع الشركاء الدوليين، وتمتلك معرفة عملية بالتحولات الجارية، وبالفجوة أحيانًا بين الخطاب المعلن ومتطلبات الواقع.

وإشراكها في هذا المسار لا ينتقص من مركزية القرار، بل يعزز واقعيته، ويجعل العقيدة الدبلوماسية نتاجًا تراكميًا لتجربة الدولة، لا اجتهادًا نظريًا معزولًا.

ومن ثم، فإن النقاش الدائر حولها ينبغي أن يكون نقاشًا هادئًا ومسؤولًا، يهدف إلى تعزيز نجاعة الدبلوماسية الموريتانية، وترسيخ موقع البلاد، وصون ثوابتها، لا إلى التشكيك في مسار ظل، في جوهره، متماسكًا عبر الزمن.

 

عبد القادر ولد محمد.