
بعد أن فشلت مقولة ثنائية سواد العين وبياضها في تقديم الكثير للأرقاء السابقين أو من يسمون بـ(لحراطين) وبعد أن فشلت محاولات تسييس القضية وأخفق حلها عن طريق تعيينات هنا أو هناك وبعد أن أدرك الجميع أن كمية الظلم والهوان والجور التي تعرضت لها هذه الشريحة لم تتعرض لها شريحة في التاريخ، وبعد أن عرف المهرجون أن الدين الذي بدأ بآل ياسر وبلال وسلمان، الدين الذي يوصي بحقوق الحيوان وينشر المساواة والعدالة لا يمكن أن يكرس العبودية ولا يشرع لها.. صار لزاما علينا جميعا كموريتانيين أن نواجه هذه المشكلة بطريقة جدية وبصفة عادلة تقدم العدل لمن ظلم كثيرا، وكما شارك الجميع في ظلم هذه الشريحة على الجميع أن يشارك في رفع الظلم عنها وجبر خواطرها كل من جهته وانطلاقا من دوره الذي يلعبه ويقوم به في المجتمع، وحسب التفصيل التالي:
1. دور الدولة في مكافحة العبودية ورفع الظلم عن الأرقاء السابقين:
الدولة هي المسؤول الأول والأخير عن وجود العبودية وعن تصفية مخلفاتها نتيجة كونها المسؤول عن المجتمع وعن الإرث السياسي للنظم السياسية التي كانت تدير المجتمع وتسير أموره ، وقد قامت الدولة ومنذ الاستقلال بمجهودات خجولة لتصفية هذه الظاهرة على مستوى مسطرة القوانين وكذلك على مستوى برامج لإعادة دمج الأرقاء السابقين، ورغم أن الجهد الذي قيم به غير كاف وغير متسق مع الحاجة بل يميل عادة إلى البرامج السياسية ذات الهدف الانتخابي، إلا أن الدولة تبقى مطالبة بتطوير القوانين والقضاء نهائيا على الظاهرة والتعامل بحزم مع كل حالة مكتشفة وتطبيق القانون على الجميع حتى تختفي الظاهرة نهائيا.. وفي نفس الوقت مطالبة ببرامج تأهيلية لهذه المجموعة على مستوى الرجال الناضجين والذين عانوا في حياتهم من العبودية والظلم والتهميش ولم يستطيعوا الاستفادة من التعليم ولا التدرب على وظيفة فأصبحوا من الحمالة والعمال اليوميين فهؤلاء يجب أن توجه لهم قروض صغيرة ويتم تأهيلهم لوظائف جديدة، لأن القوة البدنية التي يعتمدون عليها زائلة خصوصا مع ظروف الفقر وسوء التغذية والمرض.. كما يجب توجيه ومتابعة الشباب من هذه الشريحة للتعليم وتيسير التعليم لهم وتشجيع ذويهم الذين يفضلون توجيههم للعمل على عربات بيع المياه أو السخرة نتيجة الفقر المدقع والحاجة الماسة، وعلينا أن نعرف جميعا أن هؤلاء هم مستقبل البلد وقوته التي يعتمد عليها، لذلك على الدولة الاهتمام الخاص بهؤلاء وتمييزهم إيجابيا في التعليم وفي التدريب والتوظيف حتى تدمجهم في الدولة وأجهزتها المختلفة.
هذه الإجراءات يجب أن يصاحبها توجه حقيقي للاعتذار لهذه الشريحة عن ما عانته وتخصيص يومي وطني للمسامحة والاعتذار، تقدم فيه جوائز للنصوص الشعرية التي تنتقد الاستعباد وتعلي من شأن هذه الشريحة وتبين ما تعرضت له، وتوجيه الإعلام والتعليم لتغيير العقلية الاستعبادية للمجتمع.
2. دور الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في مكافحة الرق ومخلفاته:
تحاول جميع الأحزاب السياسية تقديم برامج سياسية جامعة مانعة تهتم بكل ما يعانيه الوطن من الفساد والديكتاتورية وحتى المحافظة على المناخ، لكنها ما تزال تعالج ظاهرة العبودية ومشكل الاسترقاق بخجل ومداهنة، لذلك عليها أن تعلن صراحة عن موقفها وأن تعتبر هذه المشكلة من أكبر مشاكل البلد وحلها ربما يساعد في حل جميع المشاكل الأخرى كمشكل التعليم والصحة ومكافحة الفقر والعدالة الاجتماعية والمساواة وكذلك توعية شريحة كبيرة من الفاعلين السياسيين والناخبين الذين طالما استغلت الدولة جهلهم وعدم وعيهم السياسي وتبعيتهم العمياء للقبائل وللدولة والإدارة المحلية.
3. دور العلماء والمثقفين:
يقع الدور الأكبر في هذه المعضلة على العلماء لأن جميع من مارس الاستعباد حاول تسويغه دينيا مقدما فهما مغلوطا ومشوها للإسلام أنه دين للعبودية ويشجع عليها، والمغالطة الكبيرة التي وقع فيها الجميع هي عدم التفريق بين العبودية كظاهرة والاستعباد كسلوك مشين رفضه الإسلام وحاربه ونهى عنه، فالعلماء مطالبون بالجهر بموقفهم والخروج من المنطقة الرمادية والصدع بالحق أمام الجميع، فمن غير المقبول أن بلادا أخرجت آلاف العلماء لا تجد منهم من يجاهر بموقفه من هذه الظاهرة المخجلة ويستطيع محاربة ممارسات الاستعباد التي نعرف جميعا ما تحمله من ظلم وقهر واستغلال باسم الدين، هذا الدين الذي جاء لينشر العدل والمساواة والحرية، موقف العلماء والمثقفين في بلادنا موقف مخجل من هذه الظاهرة وعليهم أن يتداركوا شيئا من ماء وجوههم بإعلان مواقفهم وتشخيص هذه الحالة التي قد تتفاقم وتتحول إلى ما لا تحمد عقباه.
4. المجتمع وتغيير العقليات:
تسيطر على مجتمعنا الطبقية والتراتبية الظالمة حيث يحتقر طبقات معينة ويضعها في أسفل السلم الطبقي لا لشيء سوى لدورهم النبيل الذي يقومون به، ويعلي طبقات أخرى لا لشيء سوى لأدوار سيئة جدا وسلبية لعبها أجدادها أو ادعوا ذلك، في كنف هذه التراتبية توجد عقلية الاستعباد المقيتة والتفاخر بها والتمتع بممارستها، فقد سيطرت ثقافة الاستعباد واقترنت بصبغها صبغة دينية ومحاولة تسويغها انطلاقا من ذلك.. وقد صاحبت هذه العقلية ممارسات بشعة لا يقبلها العقل ولا الفطرة السليمة ولا يقرها الدين ولا المروءة.. ومع ظهور الدولة الجديدة استطاعت هذه العقليات التسلل إلى مفاصل هذه الدولة وعشعشت في كنفها، بل اصطبغت بصبغتها الخاصة مما شجع ممارسات الاسترقاق وحال دون ظهور حركات تشجع على تحرر هذه الشريحة ودمجها في المجتمع والاضطلاع بدور إيجابي فيه.
لما شكل المجتمع الحاضنة الأساسية للعقليات الاستعبادية كان عليه أن يلعب الدور الأساسي في مكافحة هذه الظاهرة والقضاء على مخلفاتها وذلك بتشجيع ثقافة الاعتذار لجميع من تضرر من الظاهرة أو تضرر منها ذووه، ورفض عقلية الاستعباد ونبذها في المجتمع والتنبيه على أن من يمارس الاستعباد يعاني من مرض اجتماعي خطير فالفطرة السليمة والإنسان السوي لا يمكن أن يميل إلى استعباد أخيه الإنسان وظلمه والتنكيل به، لذلك فنحن بحاجة ماسة إلى إعادة ترتيب لأولويات مجتمعنا واعتبار هذه الظاهرة ظاهرة خطيرة وجعلها ضمن الأولويات التي تجب مكافحتها وصياغة آليات لذلك بتغيير الترسانة الموجودة من النصوص الشرعية والأمثلة والمقولات الشعبية الاستعبادية واستبدالها بترسانة جديدة تعلي من قيم الحرية والمساواة بين جميع الشرائح وتطلب التسامح وتعلي من شأنه.
5. الاستخلاص:
هذه جملة ملاحظات وآراء ومقترحات الهدف منها التنبيه على خطورة ظاهرة الاسترقاق ومخلفاته التي يعانيها مجتمعنا وتعاني منها شريحة كبيرة جدا منه، تهدف كذلك إلى إقامة حوار حول هذه الظاهرة والمساعدة في حلها والتخفيف من مخلفاتها والمحافظة على أواصر القربى والأخوة في الدين والوطن، وتكثيف النسيج الاجتماعي لبلدنا وإقامة وحدة وطنية حقيقية..