لا شك أن الذي يقرأ للدكتور الموسوعي محمد المختار ولد اباه، سيلاحظ فرقاً بيناً بين مذكراته "رحلة مع الحياة" التي صدرت في الأشهر الماضية، وبين كتبه الأخرى. فقد كُتبتْ هذه المذكرات بلغة سهلة، وأسلوب قريب، وسرد ممتع ومفيد، وتنظيم جيد، ووضوح في المُجمل، وكياسة لا تخطوها العين بين ثنايا الجُمَل.
لقد توجهتُ تِلقاء هذه المذكرات بكثيرٍ من الشّغف، ولا غرو؛ فالرجل عالم بمعنى الكلمة، وشاهدٌ على عصر الاستعمار، وأحد بُناة الدولة الموريتانية، وله خبرة طويلة في الأسفار، وتجارِب مهمة في المنظمات الدولية والعربية.. كل هذا وغيره جعل هذه المذكرات تحتوي على كم هائل من المعلومات والتجارب، قلّ أن تجتمع في غيرها.
لكن الهاجس الأكبر، والهُيام الأعظم الذي ظل يُلاحق ولد ابّاه أينما حل وارتحل هو هاجس التعليم، أو كما عبّر هو "هِوايةُ التّعليم". يقول: "لقد ظل التعليم هِوايتي المُفضلة، وحِرفتي المهنية، فمنذ أن بدأته وأنا ابن عشرين سنة، استأثر بكامل اهتمامي حتى أني اليوم وأنا أسير في خُطى مُتسارعة خلف شبح التّسعين، ما أزال أحرص أن أمارسه بقدر المُستطاع". [رحلة مع الحياة، ص: 315].
ولا تتوقفُ هواجس التعليم عند محمد المختار على حب التعليم، أو هوايته، بل تتحول أحياناً إلى قلق عندما يُمنع من ممارسة التعليم، يقول: "وما زلت أتذكر مرة أني في الطريق من انواكشوط إلى مقر الإقامة الجبرية في تامشكط أصابني قلق لا علاقة له بقضية الاعتقال؛ وإنما كنتُ أقول في نفسي هل بإمكاني وأنا في السجن أن أقوم بإلقاء دروس في النحو على النزلاء معي" [رحلة مع الحياة، ص: 316].
وحتّى لا نُطيلَ على القارئ الكريم؛ سنتوقف عند نقطتين، الأولى حول رحلته الدراسية، والثانية عن رحلته التدريسية والإنجازات التي حققها.
أولاً: رحلته الدراسية؛ لا يخفى عليك أيها القارئ الكريم التداخل بين الرحلتين، خصوصاً أن الأولى منها تحققت في ظلّ الثانية.. وتلك دلالة على قوة العزم وبعد الهمة.
لقد بدأ محمد المختار حياته في أحضان البادية، وفي رحاب المحظرة، كأي فتى من فتيان حيّه، وضمن بيئة علمية صوفية كبيئته، لكن؛ اللافت للانتباه في هذه المرحلة هو توقُه إلى معرفة حقيقة الأشياء، بدءاً من مغامرة " الحجاب"، و"الفيض"، و"الفتح" الصوفي، مروراً بتجاوز ضرورة الانخراط في "السرب"، المسمى عندهم بـ"الصُّربة"، ثم التحرر من القيود الأسرية ورتابة حياة الحي، وذلك بالسفر على جمله "الأسمر"، ثم التحليق بالطائرة الخفيفة التي كانت تحمله كريح سليمان من انواكشوط إلى قرية النباغية، في أقلّ من نصف ساعة.. وانتهاءً بخوض مغامرة التعليم النظامي.
إن خوضه غمار التعليم النظامي، يبدو في الظاهر أنه جاء نتيجة لصعوبة الحياة، وغلاء المعيشة في تلك الفترة، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد –أيضاً- تجربتين: الأولى كانت في الزراعة، والثانية كانت في التجارة، لم يوفق فيهما، أو لم تروقا له، وهنا بدأت محاولات الالتحاق بالتعليم النظامي. وبعد محاولتين مع الإدارة الفرنسية، تم تعينه مدرساً للغة العربية في مدينة النعمة في أقصى شرق البلاد، بتاريخ: 7 أكتوبر 1947م.
وبعد هذا التعيين بدأ بالفعل في إحراز الشهادات، فجاءت على النحو التالي:
- اجتاز امتحان الشهادة الابتدائية، وذلك بعد أن تعلم اللغة الفرنسية مع الصفوف الأخيرة في مدرسة النعة، وبذلك أزاح مركب الأمية، وأكمل مؤهلات التوظيف.
- العمل مراقباً في مدينة بوتلميت، وهنا تابع تعلم اللغة الفرنسية، شعراً، ونثراً، وأدباً، وغيرها من المواد الأخرى، كالرياضيات، والفلسفة... وفي سنة 1951، وبعد عامين من الحراسة والدراسة قدم طلب الترشح لشهادة الدراسات الإعدادية، ونجح فيها.
- إحراز شهادة الباكلوريا بالفرنسية بشقيْها الأول والثاني، وذلك بين عامي 1953-1954م.
- الليسانس في الآداب، من الرباط عام 1960.
- الدراسة في جامعة السربون العريقة، ومنها أخذ:
- شهادة التأهيل الجامعي.
- شهادة الدكتوراه
- شهادة التبريز
- شهادة دكتوراه الدولة
كانت هذه مراحل العلامة محمد المختار ولد اباه مع الشهادات الجامعية، وهي مسيرة حافلة بالأحداث والمواقف والذكريات الجميلة.
ثانياً: رحلته التدريسية؛ إذا كانت رحلة محمد المختار الدراسية مرت بمراحل متعددة، بعضها في موريتانيا، وبعضها في السنغال، وبعضها بالمغرب، والأخير منها في فرنسا؛ فإن رحلته التدريسية –أيضاً- مرت بمراحل، أو كما عبر بـ"الحبو"، يقول: "بدأتُ مدرساً متدرباً للغة العربية أول أمري، ثم معلماً للغة الفرنسية في القسم الابتدائي، ومفتشاً في التعليم العربي، ثم أستاذاً في التعليم الثانوي، ثم أستاذاً في التعليم العالي، ومفتشاً عاماً للمنظومة التربوية كاملة" [رحلة مع الحياة، ص: 316].
وإضافة إلى ما تقدم؛ فقد تمثل هذا الهاجس أو الهواية، في إدارة وتأسيس الكثير من المنشآت التعليمية في البلاد، وخارجها وهي:
- إدارة وتسيير معهد أبي تلميت للغة العربية والعلوم الإسلامية 1955م.
- أول مفتش للغة العربية على مستوى الجمهورية، وكذلك المشاركة بعضوية فعّالة في إصلاح نظام التعليم الأول سنة 1967م، وما صاحب ذلك من مشاكل تتعلق أساساً بقضية التعريب. وقد عهد إليه برئاسة لجنة متابعة تنفيذ الإصلاح وإعداد آلياته التطبيقية.
- إدارة مدرسة تكوين المعلمين سنة 1967 ولمدة أربع سنوات.
- أول مدير لإدارة مدرسة التعليم العيا "لنس" من سنة (1970-1978).
- رئاسة لجنة إصلاح التعليم الثاني سنة 1972م.
- رئاسة الجامعة الإسلامية بالنيجر سنة 1989م.
- التدريس بدار الحديث الحسنية لمدة تسع سنوات.
- العضوية في مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1996م.
- رئاسة وتأسيس مجلس جوائز شنقيط، بأمر من الرئيس معاوية سنة 2000م.
- محاولة تأسيس مجمع للغة العربية في موريتانيا في عهد الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله رحمه الله.
- إنشاء جامعة شنقيط العصرية سنة 2006م.
أخيراً؛ هذه نماذج فقط من تعلق محمد المختار ولد اباه بالتعليم، وغيرها كثير، وإذا كان قد عنون مذكراته بـ"رحلة مع الحياة"؛ فإنها –رغم ما فيها من التاريخ والشهادة على مرحلة مهمة من تاريخ البلد- رحلة مع التعليم والتعلّم.
حفظ الله العلامة محمد المختار ولد اباه، وبارك في عمره وعمله.
أحمد غوثم اممد