لا يوجد في ما يسمى “الأغلبية الرئاسية” سياسي أو موظف سامي أو قائد حزب واحد يحتاجه النظام أو يستطيع الإضرار بالسلطة. هذه الحقيقة السياسية دأب دوماً بارونات نسخ الأحزاب الحاكمة المتعاقبة على إقناع أتباعهم بها. رغم ذلك أثبتت كل المنعطفات السياسية كذبها منذ انتخابات البلدية سنة ١٩٨٦ مروراً برئاسيات ١٩٩٢ والمرحلة الانتقالية إلى سنة ٢٠٢٢.
فمنذ فترة يطلق البعض إشاعة أن أحد المبرئين من ملف العشرية نجى لأن الحسابات السياسية أثبتت أن له شعبية في منطقته وأن قدرته على التعبئة قد تشكل عقبة في إلانتخابات القادمة للحزب الحاكم مما يجعل إعادة تأهيله لتعيينه في الحكومة أو الحزب “مطلباً سياسياً يصب في مصلحة النظام. بغض النظر عن الشق القضائي البحت للمسألة, لا يخفى أن هذا الكلام من المنظور السياسي هو محض دعاية رديئة تسوق للعامة ولا يمكن لمن خبر كيف تمارس “السياسة” فعلياً في هذا البلد أن يأخذه على محمل الجد. الأهم هو أن شيوع هذا الطرح حول عدة متورطين في مستتقع العشرية والنقاش المجتمعي الموسع الذي خلقه الملف حول عدم استبعاد النظام لكل رموز العشرية وأتباعهم شكل انطباعاً بأن الغائب الأكبر فيه هو النظام نفسه.
قواعد ثابتة ولعبة متغيرة
أولاً: رفعاً لأي لبس يجب توضيح أن صعود كبار الموظفين على الساحة المحلية، خصوصاً بعد التسعينات، هو في الحقيقة قرار سياسي محض من رأس السلطة خصوصاً لمن ليست له زعامة تقليدية أصلاً. والدليل هو عدد الزعامات التقليدية الحقيقية التي أسقطها الرؤساء المتعاقبون بجرة قلم. ويتم ذلك بتعيين وتبريز أي شخص من نفس المحيط الاجتماعي بغض النظرَ عن وزنه الحقيقي في مجتمعه المحلي بمناصب سامية سواء في البرلمان، الجهاز التنفيذي أو عن طريق الامتيازات الاقتصادية (رخص صيد، عقود توريد، صفقات عمومية، مشاريع أممية). هؤلاء يتمكنون من شتل أنفسهم كمراكز نفوذ تستمد “شعبيتها” لمقايضة الامتيازات والتوسط للساكنة المحليين مع مرافق الدولة بالأصوات الانتخابية ولفرض هيمنة الحزب الحاكم على المشهد المحلي في الداخل. وفي حال فشلهم أو صدامهم مع السلطة السياسية يتم تحييدهم. هذا تقريباً هو سر هيمنة حزب الدولة منذ الهياكل إلى “حزب” الاتحاد.
ثانياً: عمليات التنصيب والترشيح في الحملات الانتخابية هي في حقيقتها عملية مقايضة كبرى يستخدم فيها الموظفون مراكزهم في الحكومة والإدارة والبرلمان ورجال الأعمال نفوذهم الذي هو أصلًا مستمد من حظوة النظام لهم، بالإضافة للأموال التي يستولون عليها من ميزانيات إداراتهم أو من الامتيازات الاقتصادية التي زودتهم بها القيادة السياسية لتلك اللحظة. بعبارة أخرى هذه بضاعة الحاكم وقد ردت إليه. هؤلاء ليسو سوى أدوات وبيادق أو بالادق سماسرة يمكن للحاكم أن يقويهم أو يدمرهم بسهولة إن لم يأتوا صاغرين باتاواتهم المتمثلة في أصوات الناخبين ، ما ينقص فقط لتدميرهم هو الإرادة السياسية.
ثالثاً: سياسياً، في عصر المعلومة والانترنت وخصوصاً الوعي الحقوقي والطبقي، لم تعد اللعبة كما كانت أيام ولد الطائع الذي برع في صنع البيادق المحلية والقبلية في كل ولايات البلد لاحلالها محل قيادات أخرى كانت بعضها تحظى بالزعامة لقرون. اللعبة اليوم في أفق أفلست نخبه السياسية أخلاقياً، وأصبح فيه حزب السلطة نسخة باهتة،مستنسخة من نسخ باهتة أخرى لا تختلف عن سابقاتها، تتطلب اللعبة اليوم أدوات جديدة تناسب العصر. فالمجهود الذي يتطلبه تدوير فاسد واحد أصبح يتجاوز بكثير المجهود لطرح رمز جديد يحل محله خصوصاً أن البلد اليوم يمتلئ بالأطر والشباب تحت سن الأربعين (صاحب هذه الحروف ليس واحداً منهم لتقدم سنه). إذ يستطيع النظام بسهولة إحلالهم محل اللصوص والشبهات وأصحاب السوابق الذين يثقلون كاهله اليوم. بنفس الطريقة التي صنع ول عبد العزيز الشخص الآنف الذكر يستطيع ولد الغزواني أخذ أي من عشرات الأطر الشابة في ولاية ذلك الشخص بل حتى مقاطعته لاحلالها محله، مع فارق أن أياً منهم سيحتاج لسنوات لكي يحصد العداء الشديد الذي يكنه الرأي العام لصاحبنا الذي برأه القضاء لكن أدانه الرأي العام.
الفرق الذي صنعته الوسائط الاجتماعية اليوم وسرعة المعلومة وصنع الاشاعة والدعاية السياسية هو أن الحفاظ على مسافة بين الفاسدين وشخص الرئيس أصبحت أصعب بكثير مما كانت عليه سابقاً. في الماضي كانت الإشاعات والدعاية المضادة محصورة في نخب بنواكشوط والمدن الكبرى، أما اليوم فيمكن أن تطير خبرية واحدة من كوبني لكوالالمبور لواشنطن لتعود لنواكشوط مروراً بتجكجة والزويرات. الولوج لتلك المعلومة يتساوى فيه كبار الموسرين مع سائقي سيارات الأجرة والرعاة وأطفال الاعداديات من كل الشرائح والجهات. والأخطر هو أن صناعة الرأي العام لم تعد حكراً على أحد بل “دمقرطتها” المنصات الاجتماعية مما جعل عملية تبييض أي سياسي انقلب عليه الرأي العام ضرباً من المستحيل. الفاسدون يستحيل اليوم غسيلهم من الفساد كما كان يجري في الماضي.
رابعاً: السياسة هي فن الممكن، ورغم التحفظات العميقة والكبيرة والمبدئية على نهج معاوية ونهج ولد عبد العزيز الذي لا يقوم على عقد مواطنة مؤسس على مشروع دولة، فهناك قواعد لم تتغير في البلد: السير ضد مقدرات الدولة ليس خياراً طبيعيًا لجل ممارسي السياسة في هذا البلد رغم ما يقال في المهرجانات والوسائط الاجتماعية، جل المجتمع يبتعد فطرياً عن الصدام مع الدولة وهذا لم يتغير. أي أن صنائع الأنظمة السابقة هم فزاعات جوفاء وقدرتها على التعبئة والحشد محددة بالمناصب التي يشغلونها والميزانيات التي يسيرونها، بدون هذه ودعم الدولة سينفض عنهم من كانوا حولهم وسيلتفون بسرعة حول من تنصبه الدولة محلهم. الحقيقة الأخرى هي أنه لا يوجد اليوم عضو واحد في المجلس الوطني للحزب الحاكم إلا وله من الأعداء والمنافسين في مقاطعته وولايته ما يكفي لتعبئة أحزاب كاملة.
نقطة الضعف القاتلة تتمثل في كون الحزب الحاكم وصنائعه ليسا تجمعاً ثورياً مؤدلجاً، بل هما كتلة هلامية تفتقر حتى لرؤوس أقلام فكرية تنظر لأي رؤية أو طرح سياسي جدير بهذا الوصف. الكل يجتمع حول بيانات ضعيفة البنية فقيرة المنطق وضحلة المعنى مستهلكة المفردات لا يقرأها حتى منتسبوه. وقادته ليسو سوى حصيلة مصادفات محضة وحسابات ضيقة حدثت في وقت ما قام بها هذا الحاكم أو ذاك. القوتان الحقيقيتان في البلد هما الجيش والإدارة، نعم رجال الأعمال قوة مهمة لكنها طفيلية تستمد قوتها من قدرتها على إختراق الجهاز الحكومي والجيش بالمال. كل تلك العوامل تفضي لسؤال واحد: سياسياً لماذا لم يستفد النظام إلى الآن من فتح المحاسبة في ملف العشرية؟ وما نتيجة ذلك الآن؟
الجواب على ذلك السؤال السياسي يتطلب جواباً سياسياً وعملياً يقفز فوق القراءات القانونية والاجرائية ليصل لتوصيف النتيجة: الإدارة الإعلامية الفاشلة لملف العشرية قوضت هيبة الدولة. فقد عجزت الدولة عن إعطاء جواب واضح وعملي على أهم تساؤل لدى الرأي العام: لماذا لا يزال المفسدون في الواجهة؟
يستغرب الجميع إعادة تدوير من هم في الحقيقة مجرد دمى ليس لها بعد حقيقي بدون المناصب والأموال التي منحتهم إياها الأنظمة الحاكمة، وقد تفاقمت الأمور لدرجة أصبح التشكيك بإرادة الرئيس يتخطى الأوساط المعارضة بل يصدر حتى من النواة الصلبة الداعمة له. الآن هناك رافدان للرأي العام: الأول يقول بأن الرئيس يدبر أمراً ما ويستدل أنصار ذلك التيار بتطورات ملف العشرية كمؤشر على قرب بدأ تجديد الطبقة السياسية بالتخلص من نفايات الأنظمة السابقة. هذا الرافد وضعته تبرئة إثنين من اللائحة الرسمية للمتهمين في موضع الدفاع في وجه الرافد الآخر الذي لم يعد يصدق تعهدات الرئيس ولا برنامجه وأصبح مقتنعاً بعجزه بنيوياً عن التغيير. وحجة هذا الرافد الأقوى شعبياً هي تواتر وجوه وأباطرة الفساد في التعيينات والانطباع بأن النظام الحالي لا يملك من أمره شيئا.
لا يشفع للنظام تبعثر وشلل وسائل إعلامه التي أصبحت عاجزة عن إدارة ملف العشرية إعلامياً وتوضيح وجهة نظره فيها مما ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لكل التأويلات والقراءات. فكان الغائب الأكبر في هذا النقاش المجتمعي هو النظام نفسه. هذا الأمر له تبعاته وتشعباته فمثلاً، شلل الحوار السياسي الذي أعلن مؤخراً عن فشله قبل بدايته، ثم تطاول أحد الساسة المرموقين على من كلفه الرئيس بإدارة الحوار علنياً في مقطع فيديو تداوله الموريتانيون ليس صدفة. هذه كلها مؤشرات على تآكل هيبة الدولة بسبب ملف العشرية والفشل الإعلامي والسياسي في إدارته.
الساحة السياسة الموريتانية اليوم أشبه بالكيمياء منها بالفيزياء. إذ أن المسألة مسألة خلطات وتفاعلات أكثر من كونها مسألة قوى وحركة وصدامات. فتآكل هيبة الدولة هو ما جعل الشخص الذي بدأنا الحديث به يسوق نفسه بأنه ركن من أركان السياسة المحلية لا يستطيع النظام الاستغناء عنه بعد تبرئته في الملف الذي تضمن شهادة منه شخصيًا على تحمله المسؤولية – على الأقل أخلاقياً أمام الرأي العام – في عمليات الفساد التي كان عوناً طيعاً فيها لولد عبد العزيز. هذه الجرأة وهي مفهومة من سياسي طموح سببها القناعة الراسخة بأن النظام والدولة والحزب بحاجة له، وهنا مربط الفرس: الدولة والنظام والحزب لا حاجة لهم بأحد في هذه البلاد إذ أنه لا يوجد أحد يملك مقومات البقاء السياسي في مواجهة قوة الدولة ومالها وجيشها ومحاكمها ومخابراتها. وأيضاً لأنه لا يوجد أحد يستحيل استبداله بغيره.
جرعة المفسدين زادت، وحموضة ملف العشرية بدأت فعلًا في القضاء على ما يسمى الأغلبية الحاكمة، لكن في النهاية الدولة الموريتانية قوتها في السياسة المحلية هي أنها مبنية على حقيقة بينة: من أرادت الدولة سحقه سياسياً واقتصاديًا سيختفي تماماً من الساحة.
فأياً كانت خطط الغزواني، لا بد له من مخاطبة الشعب مباشرة لكن ليس بالخطابات والاجتماعات لكن بالكيمياء التطبيقية: تذويب المفسدين بمحاليل إنتخابية، إيجاد خلطات إدارية تستخدم جزيئات جديدة. والأهم، خفض سمية الحزب الحاكم ونفايات الأنظمة السابقة على جيوب وعقول وكرامة موريتانيا دولة وشعباً.
ناصر ودادي