سبق لي وأن كتبت على جدار هذه الصفحة مقالا بعنوان: "الأمن الديني" مطالبا بأن نعيش ديننا بهدوء واطمئنان بعيدا عن الإثارة والغضب والصخب والعنف اللفظي. دعونا نعيش على سجيتنا وطبيعتنا عسى أن نكون خلَفا صالحا لسلف صالح، ولا نكون مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ.
إن الحط من مكانة العلماء وعدم الاعتراف بما آتاهم الله من فضله، وبالأحرى التجريح بهم غير مألوف في هذه الأرض، ولا يخدم لا الدين ولا الدنيا. لقد تربّينا على ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن عن أبي الدرداء من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر". واستقر فينا أن المقصود بالوراثة مسألتين، هما : وجوب على العلماء تبليغ الدين ونشره وإعلاء كلمته، و وجوب على المتعلمين الانصات والتوقير لهم، وجواز التوسل بدعائهم.
لولا ذلك، لما استسقى عمر بن الخطاب بالعباس بن عبد المطلب فيما رواه أنس بن مالك: أن عمر بن الخطاب قال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا صلى الله عليه وسلم فاسقنا"..ويسقون! ومعنى قول عمر: إنا نتوسل إليك بعم نبينا صلى الله عليه وسلم، هو التوسل بدعاء العباس رضي الله عنه و أرضاه. والأمثلة في التوسل بدعاء التابعين والصالحين لا تحصى ولا تُعد. و منها على سبيل المثال استسقاء معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بسليم ابن عامر، وهو أحد التابعين الأجلاء. أمره معاوية بالصعود على المنبر، وقعد عند رجليه؛ وقال: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي.
وفي هذا السياق، فإني أتعجب من شخص يطرق أبواب الوزراء وغيرهم من أهل المال والجاه، و يستسقى بهم ويتقرب إليهم بالمدائح، ويمضي وقته في البحث عن أي وسيلة توصله إليهم أو تقربه منهم أو يحصل بها على من يشفع له عندهم لقضاء حاجة: فلوس، وقود، قطعة أرضية، تعيين، الخ.. وهو يعلم أن الحوائج تقضى من عند الله، وأن الوزير نفسه وصاحب المال والجاه لا يملكون لهم ولا لأنفسهم نفعا .. وعجبي أشد إن كان يطرق أبواب المنجمين والعرافين والسحرة ابتغاء حاجة .. ثم ينكر على من يطرق أبواب العلماء والفقهاء من حملة القرآن الكريم - الراكعين الساجدين - الذين هم عباد الله وخاصيته ومَظِنة الخير والبركة واستجابة الدعاء!
من يفعل ذلك، فإنما يجيز لنفسه التسبب و التشفع والاستسقاء لبلوغ حاجته، و ينكر على غيره زيارة الصالحين ومحبتهم وتعظيم شأنهم و طلب الدعاء من أفواههم.
وفي الختام، قد نختلف مع هذا العالم أو ذاك في جزيئات محددة، و قد يختلف العلماء فيما بينهم على مسائل فرعية هنا وهناك، كما اختلف الصحابة والتابعين وكبار العلماء؛ ولكن خلافهم رحمة ونعمة بدل أن يكون فتنة ونغمة ..
والله المستعان.
محمد فال بلال