مستفزة بالفعل بعض هذه "الأسماء المتغيرة" التي بدأت تظهر من حين لآخر فيما يشبه السعي المتخابث إلى مغالطة الرأي العام بأن شيئا جديدا يولد! مستفزة بحجم ما تمثله من استحمار للمواطنين، لكن أيضا بما تكشف عنه من عجز عن الابتكار والانجاز ومن عدم احترام لشعب يوشك أن يوضع أمام خيارين أحلاهما مر. وإلا فأي معنى –مثلا- لتغيير اسم "التضامن" لتصبح "التآزر" إن لم يكن في الأمر مكر وخديعة؟ هل يكفي ذلك لإقناع الموريتانيين بأن مؤسسة تجسد الفشل في أنصع تجلياته قد تحولت فجأة إلى إنجاز تاريخي "يذكر فيشكر"؟
هل تدخل "مدائن ولد داهي التراثية" ضمن هذا النوع من الأسماء المتغيرة المخادعة؟ أم أنها تعبير عن مكنونات أو مكبوتات باح بها "اللاوعي" في لحظة صفاء أذكتها نرجسية تهيم بتوزيع البصمات وبالنبش في العوالم الغرائبية بحثا عن أية بقايا تسعف في تنويم المتلقي واختراق آلياته الدفاعية؟ هل "المدائن" تعبير عن فلسفة جديدة في إدارة الشأن العام؟ أم عن أسلوب مبتكر في تعاطي المرؤوس مع رئيسه أو في تحذيره له؟ أم لعلها ارتقاء بـ "الانجازات اللغوية" لطرحها كبديل لنظيراتها المادية؟
مهما يكن فإن الأمر يتعلق باختراع غريب مسجل باسم الوزير الألمعي مختار ولد داهي، لتغيير اسم مهرجان المدن القديمة في نسخته ما بعد العاشرة. وما دام معالي الوزير لم يتطوع في خطابه الافتتاحي المطول لمهرجان المدائن، بتوضيح دواعي هذا التغير وبعض أبعاده اللغوية والفلسفية والتاريخية والسيكولوجية والأنتربولوجية، وما دامت كل زيادة في المبنى تفرض بالمقابل زيادة في المعنى، فلا بأس ببذل بعض يسير الجهد في سبيل كشف ما التبس من ملابسات مدائن ولد داهي.
لا يبدو الوزير مكترثا بأن الأمر يتعلق بمدن تاريخية أو قديمة، بحسب ما نص عليه القانون 24/2019 المتعلق بحماية التراث المادي المحسوس وكما تؤكد ذلك أيضا تسمية إحدى المؤسسات التابعة لقطاعه (المؤسسة الوطنية لحماية المدن القديمة)؛ وليس بمدائن تراثية ولا أثرية لأن الفرق جلي بين المسميات، ما يعني أن هناك أسبابا جدية تجعل معاليه يصر على ضرب الحائط بالرسميات، قد تكون ذات صلة بتوصيل رسالة ما خصوصا وأنه الكاتب والمحلل الخبير في توجيه واستقبال وفهم الرسائل.
كلمة "المدائن" وردت في القرآن الكريم ثلاث مرات في سياق الحديث عن فرعون وحاشيته وسحرته. ومن بين المدائن الأكثر شهرة في التاريخ: "مدائن صالح" –المدرجة هي الأخرى على قائمة اليونسكو للتراث العالمي- التي أصابتها الصيحة والرجفة والصاعقة، و"مدائن قوم لوط" (المؤتفكات) التي حولت الصيحة عاليها سافلها، و"مدائن كسرى" التي انتهى بها المطاف –بعد تاريخ حافل- معقلا لانقلابي سفاح من حجم عضد الدولة!
"مدائن" هي أيضا جمع تكسير من بين دلالاته "الإشفاق"، غير أن من بينها كذلك "التباين والتفريق والتفجيع"، حتى أن رائعة الأخوين رحباني وفيروز لما تسمت بـ "زهرة المدائن"، تلفحت هي الأخرى برداء الحزن فجاءت مثقلة بالألم وبـ "الغضب الساطع" الآتي "بجياد الرهبة .. ليهزم وجه القوة"؛ لتبدو "المدائن" وكأنها مرتبطة على الأقل بالطغيان وسوء العاقبة والفرقة والفجيعة، إضافة إلى الغضب الساطع الآتي لهزيمة وجه القوة؟
هل نحن أمام تعريض بفخامة رئيس الجمهورية أو بحاشيته أو بجزء منها؟ هل هي رسالة إلى المستقبل تم ادخارها في خزنة الودائع لاستخدامها بغرض الحماية عند الاقتضاء -في زمن آخر- بعد فك رموزها وإعادة تأويلاها؟ أم هي قراءة استشرافية لما يلوح في الأفق من توقعات معالي الوزير من خلافات وفرقة ومصائب وأيضا من غضب ساطع آت بجياد الرهبة لهزيمة وجه القوة؟
هل "المدائن" إذا مسكونة بلعنة على غرار "لعنة الفراعنة" تطال كل من يتسبب في إزعاج الفرعون، وبالتالي سيكون علينا أن نتوقع مطاردة تلك اللعنة لكل من ألقت بهم حارات "مدائن الريح" في متاهات "مدائن ولد داهي"؟ أو على الأقل أن تطارد تلك اللعنات أولئك الذين ساهموا من قريب في تدنيس الجغرافيا وتزوير التاريخ وباعوا التراث بثمن بخس وكانوا فيه من الزاهدين.
يب ولد عبد الله /مجابات