لماذا تحول “الحزب الحاكم” لشعار أجوف يغطي بالكاد حقيقته كآلة فساد؟ الجواب يحتاج لمقالات كاملة لتحليله. هنا محاولة مختصرة نختزل فيها المساحة والوقت لأن خير الكلام ما قل ودل.
أولاً، “الحزب الحاكم” هو كتلة هلامية تمثل لحد كبير البنية الاجتماعية التقليدية بتراتبيتها التي لا تمت بصلة لفكرة الدولة والمواطنة. بل هي مبنية على القبيلة والجهة والعرق. بعبارة أخرى، حزب الدولة تأطير بلبوس حداثي للبنية التقليدية بعلاقاتها الاجتماعية لفترة ما قبل الدولة بما في ذلك فكرة التابع والسيد وهي ديدنه خصوصاً في ولايات الداخل حيث أن معيار الأسبقية الأول هو النسب والولاء للدولة ثم للنخبة. وقد أضيف لها مؤخراً (العقدين الأخيرين) رأس المال الذي فاق العامل القبلي وتحول لبعد آخر مستقل في التراتبية الطبقية بل وحتى يمكن أن يقال بأنه خرج من تلك التراتبية ليصبح البعد الخامس مع الشريحة، العشيرة، الجهة والعرق.
تلك النخبة التي تتكدس في هذا التجمع تأكلت قيمها الأخلاقية وتحولت فيما بعد لسرطان يلتهم القطاعين العام والخاص.النتيجة هي أن تلك الثلة التي يعين منها الموظفون السامون وكوادر إدارات الدولة أصبحت مع مرور السنين، بحكم العادة والتقليد، تنظيماً إجرامياً مكرساً بتفاهم غير مكتوب بينه وبين الحاكم: المناصب مقابل المغانم أو الغنائم في حالة ولد عبد العزيز. وبذا تكون وظيفته الرئيسية دعم الحاكم ليس فقط بتبرير سلوكه والتنظير له لكن بمساعدته في الاستيلاء على المال العام والإثراء الغير مشروع بحكم سيطرة تلك النخبة وتمددها في كل مرافق ومفاصل الدولة.
ثانياً، “الحزب الحاكم” لا يحمل أي خطاب أيديولوجي، بل هو صندوق للشعارات التي يصكها كوادر النخبة و التي هي في الأساس مسخرة لتمجيد الفرد الجالس على الكرسي الرئاسي بغض النظر عن هويته وطريقة وصوله للحكم. والأهم: بغض النظر عن حكامته. هذا “الخطاب” الذي حمله “حزب الدولة” في مراحل تطوره تحت الحكم العسكري لم يتغير جوهره ولم يكن أبداً يهدف بشكل جدي لتنظيم العلاقة بين هرم السلطة والمحكومين على أساس عقد اجتماعي مضبوط بحقوق وواجبات ترسم العلاقة وترسخها على أساس القانون ومنظومة أخلاقية مبنية على هوية البلد الحضارية والتي يشكل الإسلام محركها القيمي.
فالحزب الحاكم وهرم السلطة هما في الحقيقة بوتقة انصهرت فيها كل تلك العوامل والأبعاد فكانت النتيجة أن خطابها مبني على سجل "الإنجازات" مثل طول الطرق المعبدة، أو عدد المنشآت أو في أحيان أخرى بالمؤتمرات الدولية التي تنظم في البلد وتقدم للمواطن كمنة من الحاكم على المحكوم وأنها لم تكن لتقوم أبداً لولا "فخامته" بغض النظر عن أنها مبنية بالمال العام . هذا ما أنتجته تلك النخب المفترسة بدل أن يكون خطاب الحزب مركزاً على بناء الفزد-المواطن ورفاهيته: وطرح رؤية مشروع دولة حديثة تواكب روح العصر والارتقاء بالمجتمع وتؤسس لعقد اجتماعي يعالج المظالم التاريخية التي تعرضت لها فئاته سواء كانت طبقية، عرقية أو اقتصادية.
فبدل أن يكون الحزب الحاكم قاطرة تقدمية لتفجير الطاقات الابداعية في البلد للنهوض به من الفقر والتخلف والاستبداد، أصبح الحزب الحاكم مطية لكل طامح بالجاه والمال يتميز فيه الأقدر على التملق والنفاق بغض النظر عن النزاهة والكفاءة. لكن من المجحف الزعم بأن “الحزب الحاكم” يفتقد للكفاءات لأن فيه قدراً عالياً منها ولكنها، بسبب انعدام بوصلة أخلاقية، تبدع في سرقة المال العام ومعاضدة سارقيه على رأس الهرم كما حصل في عشرية ولد عبد العزيز زيادة على وظيفتها العضوية كمفاعل للمؤامرات والمنافسة للحصول على المناصب والامتيازات. أي أن الحزب الحاكم يستحيل عليه بحكم بنيته ومنظومته القيمية الحالية أن يكون حاملاً لأي من طموحات وآمال الطبقات المحرومة بل فقط آلة لاستغلالها وإفقارها ثم تدجينها لصالح النخبة. لذا يجب التخلص من وهم أن هذا التجمع الإجرامي قابل للإصلاح بمجرد تغيير فرد هنا وهناك طالما لم يتغير خطابه والأهم، طالما لم تحيد أقطاب الفساد فيه وهم رموزه.
ثالثاً، “الحزب الحاكم” يفتقر لأبسط مقومات الشفافية والديموقراطية، فهو إطار سلطوي يقاد بأسلوب فوقي حيث تأتى كل أوامره من القصر الرئاسي الذي يحدد من يسمح له بالترشح، وهو الأمر الذي يتم على أساس حسابات قبلية، جهوية وعرقية لا علاقة لها بالديموقراطية ولا بخيارات منتسبي الحزب الذين يؤمن بعضهم بفكرة أقرب هي لنظام المشيخات والملكيات منها للجمهوريات وهي أنه يجب إتباع الحاكم مهما كان ومهما كانت طبيعة حكمه. طبعاً هنا تناقض منطقي، فكيف لنا الحديث عن الديموقراطية بعد أن قلنا قبل سطور معدودة أن “الحزب الحاكم” عصابة إجرامية محركها الوحيد هو التآمر والسطو؟ هنا مربط الفرس، لا يمكن أن توجد في أي بلد حياة ديموقراطية إن كان حكامه يعتمدون سياسياً على عصابات إجرامية تدار بعقلية قطاع الطرق واللصوص وبمنطق التربح. فاقد الشئ لا يعطيه، وعلينا الاعتراف بتلك الحقائق خصوصاً بعد محنة عشرية ولد عبد العزيز. إذ لا يمكن أن يوصف كيان بأنه حزب سياسي إن لم يحمل إيديولوجيا وبعداً عقائدياً وأخلاقياً، وعندما يوجد كيان كهذا يحركه الفساد فلا يصح وصفه بغير نقابة لصوص.
لا مناص من الاعتراف بأن الحزب الحاكم مفلس أخلاقياً وسياسياً أكثر من أي وقت مضى وهو عبء يثقل كاهل الرئيس الجديد ويلقي بظله الثقيل على مصداقية نظام الدولة ولن يستطيع حكم البلد ولا تحقيق أي من طموحاته طالما لم يتخلص منه. حان الوقت لدفن حزب الاتحاد من أجل الجمهورية فإكرام الميت دفنه. لكن هنا لا يجوز الترحم على ذلك الميت.