بسم الله ولا حول ولا قوة إلا بالله - لقد أظهر وباء كورونا أن المقولة الشائعة منذ سبعينيات القرن الميلادي الماضي والتي تفيد بأن العالم أصبح قرية كونية واحدة، أظهر أن هذا الكلام أضحى حقيقة محسوسة يمكن لكل إنسان مهما كانت جنسيته أو محل إقامته أو مستواه التعليمي أو الاقتصادي أن يلمسها. كان الطاعون في الماضي ينتقل من مكان إلى آخر، لكنه لم ينتقل من أقصى الأرض إلى أدناها بهذه السرعة. لقد انتقل طاعون 1348 م من أوروبا إلى المغرب الأدنى وسائر حوض البحر الأبيض المتوسط، لكنه لم يصل إلى الصين ولا إلى الصحراء الكبرى ولا إلى بلاد السودان كما كان يسمي العرب إفريقيا جنوب الصحراء القريبة من بلادهم والمرتبطة بها ارتباطًا وثيقًا.
ومن المعروف أن هذا الطاعون قتل الكثير الكثير، ومن من مات بسببه في تونس والدا عالم الاجتماع عبد الرحمان ابن خلدون الخصرمي. أوضح داء كورونا أن التحديات التي تواجه البشرية كالأوبئة والاحتباس الحراري والفقر وغير ذلك لا يمكن التصدي إليها والقضاء عليها إلا على المستوى الدولي وليس على مستوى الأقطار فرادى. وهو ما يظهر أن الإنكفاء والانعزالية والأنانية لا جدوى لها، وأن شعوب العالم التي كانت تميل إلى الحلول الشعبوية - كما وقع في الولايات المتحدة وبريطانيا التي أدارت ظهرها لأوروبا - ستتنبه لا محالة لضلال هذه الوجهة.
ومن هنا، لا شك أن المنظمات الدولية والإقليمية وعلى رأسها الأمم المتحدة - رغم ضعف مشاركتها في مواجهة الجائحة الحالية - ستستعيد ألقها واهتمام المجتمع البشري بمحورية الدور الذي يمكنها أن تلعبه في الحاضر والمستقبل لمواجهة التحديات المشتركة للإنسانية جمعاء. يرى البعض أن الأنظمة الشمولية بدت أكثر قدرة على التغلب على وباء كورونا، وبذلك تكون تلك الأنظمة التسلطية أجدر بحكم كل دولة على حدة والمجتمع البشري ككل.
يبدو لي عكس ذلك، حيث أن الديمقراطية بما تكفله من حرية ومرونة ستبقى دائما متفوقة على غيرها من الأنظمة، بالإضافة إلى أنها تتماشى أكثر مع النفس البشرية وما تتوق إليه من دوام انعتاق. كما أن الديمقراطيات أثبتت طيلة القرن العشرين قدرتها الهائلة على امتصاص الأزمات كالحربين العالميتين والمنافسة مع الإمبراطورية السوفياتية. يضاف إلى ذلك أن الحرية التي تضمنها للسوق ويده الخفية أحيانًا والواضحة أحيانًا أخرى مكنت المجتمعات البشرية من أن تحقق طفرة اقتصادية غير مسبوقة، حيث تضاعف الناتج الفردي خمس مرات في أوروبا في غضون خمسين سنة بين عامي 1950 و 2000. ستتمكن البشرية من تخطي الأزمة الاقتصادية التي ستترتب على الوباء الحالي - بعد سنة شهباء على الأقل- والذي من المتوقع أن يكلف الاقتصاد العالمي نقطتي نمو إن لم يطل أجله، كما تغلبت على دمار الحروب والأوبئة في القرون المنصرمة.
ومما لا شك فيه أن الصين خرجت أقوى داخليًا وأكثر إشعاعًا على المستوى الخارجي عما كانت عليه قبل أزمة كورونا. كما أنها وقفت إلى جانب الإيطاليين والأفارقة وغيرهم في محنتهم الحالية. وهذا الدور الريادي من المتوقع أن تتعود عليه وأن تحاول تكثيفه في المستقبل، وهو ما لم تألفه "امبراطورية الوسط" في تاريخها طويل الأمد وما لم يهيئها له في الحاضر أي خطاب إيديولوجي أو فكرة ناظمة، ناهيك عن البحث عن الربح والأسواق الاستهلاكية والمواد الأولية وروح الانتقام عند كثير من شعوب العالم من الهيمنة الأوروبية الممتدة منذ القرن السادس عشر والتي كان من نتائجها السيئة الاستعباد والاستغلال والتعالي على الأغراب.
يبقى أن الصين، مهما كانت قوتها، لن تقضي في الوقت الحاضر على الغرب ولا على "الكومبلكس" العلمي والثقافي والتجاري الذي بناه على مدى بضع قرون، وإنما ستحد من نسبة ذلك "الكومبلكس" في القيمة المطلقة للاقتصاد العالمي. أما نحن المسلمين- كما تعلمون - فلم تكن لنا للأسف مساهمة تذكر في البحث عن علاج أو تطعيم ضد وباء كورونا.
بل ما نقرأه هنا وهناك هو أن الألمان والفرنسيين والأمريكيين أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى انتصار علمي مبين ضد الفيروس الفتاك، كما انتصروا من قبل على الطاعون والجدري؟
ومع ذلك، أظهر المسلمون تفوقهم على غيرهم من حيث التعاضد والتكافل والبر بالوالدين وبالأقربين واللطف بالضعفاء في هذه المحنة غير المسبوقة منذ ما يربو على قرن من الزمن ؛ وهو ما يدعو إلى التفاؤل. كما أن الوباء الحالي أظهر ضرورة استعداد علماء الأمة للاجتهاد في إيجاد حلول شرعية لما قد يتعرض له المسلمون من نوازل تتعلق بأمر دينهم أو دنياهم. وفي هذا الصدد، قد أظهر - ولله الحمد - علماؤنا في المشرق، وخصوصا الشيخين الجليلين عبد الله ابن بيه ومحمد الحسن الددو أن العلم لا زال شنقيطيا، كما كان وسيبقى جكنيا بإذن الله.
الدكتور عبد الله بن سليمان ابن الشيخ سيديا (وزير المالية الأسبق-موريتانيا)
مصدر المقال: ريم آفريك