يواجه التراث الموريتاني، بمختلف أشكاله، كارثة محققة قد تقضي عليه نهائيا في أقل من ثلاث سنوات.
قبل أيام قليلة اقتحم اللصوص مخزن المخطوطات في دار الثقافة، واقتلعوا النافذة الحديدية وكسروا الحائط وسرقوا بعض الحواسيب التي تحوي عمل السنين من الفهارس والصور الضوئية للمخطوطات.
قبل ذلك في الشهر الماضي جرت عملية سطو على المكتبة الوطنية وتمت سرقة الحواسيب وبعض المعدات الأخرى.
المتحف الوطني صار مركزا للنشاطات الفوضوية و محتوياته تتناقص أو تختفي وفي طليعتها النقود المرابطية التي اكتشفت في تكانت وتم العبث بها في ظل الدولة والمخزون الأثري في مخزن المتحف، يتعرض للتلف ولم يتم عرضه ولا توزيعه على متاحف أخرى، و يواجه ضياعا حقيقيا لغياب المختصين الذين يقتصر تكوين بعضهم على مستويات متواضعة و جل اهتمامهم بأعمال لا علاقة لها بالثقافة أو بالآثار، لأن توجّه السلطة هو تسييس كل شيء حتى التراث والآثار وتركهما لمصيرهم في غالب الأحيان.
من المضحكات أن المتحف لا يملك "كاتلوج" واحد باللغة العربية والألسنة الأجنبية يتم بيعه للزوار، ولا يملك عرضا رقميا ولا سينمائيا، كما أنه لا يملك مكتبة آثارية مصنفة.
وزراء الثقافة ، السابق والسابقون واللاحقون، لم يكلفوا أنفسهم همّ تجهيز حراسة كافية بمال الدولة لتراثها الذي يشكل أساس شرعيتها ومكون ذاكرة شعبها، بل أنفقوا الملايين على اللقاءات الشكلية من أجل مشاريع لن ترى النور لا في القريب العاجل ولا في البعيد الآجل.
ما كان يسمى "المعهد الموريتاني للبحث العلمي" كان مشروعا واعدا أسسه وتابعه رجال أكفاء صبورون لا يهمهم جاه ولا مال واستطاعوا وضع لبنات مكينة لبحث علمي في التاريخ والآثار والتراث الشفوي والمخطوطات والنبات و الحيوانات و اللهجات وحتى الدبلوماسية، ثم عصفت ريح الفساد والجهالة فذهب كل شيئ أدراج الرياح وتفرق الرجال المؤسسون أيدي سبا بين تونس وفرنسا وفي زوايا الوطن يأكل الألم قلوبهم على ضياع الجهد وحسرة على مستقبل تراث بلدهم وذاكرته.
المخطوطات المحفوظة في قسم خاص تابع لما يسمى "معهد البحث" تتعرض للتلف والضياع وحتى السرقة والتلاشي، حتى أن مجموعة الميكروفيلم التي صورها الألمان تتعرض للضياع إذا لم يتم تحويلها إلى صور رقمية، أما المخطوطات الورقية فتواجه ظروف الحفظ السيئ واسترجاعها من قبل بعض ملاّكها وحتى من قبل غيرهم، وهي مجموعة قيمة نادرة غالبيتها غير مفهرسة وجزء كبير منها آلاف الوثائق والتقاييد التي تحوي نصوصا لا تقدر بثمن لكن لم يتم فرزها ولا تصنيفها ولا فهرستها، أما القائمون عليها فهم مجاهدون حقيقيون يصارعون اللصوص وضعف المرتبات ونقص الوسائل وقلة الباحثين المؤهلين المساعدين.
المكتبة الوطنية كانت تحوي كما هائلا من الكتب نادرة الطباعة تم شراؤها من مختلف البلدان العربية، وتقوم عليها أقسام علمية حقيقية : قسم الفهرسة، قسم الاقتناء، قسم التجليد، هذا القسم الأخير تحول إلى مخزن ثم إلى قاعة مغبرة قذرة؟ المطبوعات الفرنسية التي تعود إلى عهد الاستعمار تحولت إلى أيدي سبا بين السرقة والإعارة الفوضوية والإفساد (قطع الصفحات)، وصار مخزن المكتبة خاويا على عروشه إلا من قليل لا يغني بعد أن عبث به أشباه الباحثين والزائرون غير المرخصين.
لم تعرف المكتبة تنظيما كمكتبات العالم، حيث توجد المكتبة الوطنية المغربية في مبنى هائل معظمه تحت الأرض ويحوي قاعات هائلة الحجم ومراكز للصيانة و الفهرسة والتجليد والتصوير، بينما توجد المكتبة الوطنية الجزائرية في مبنى تحفة يحوي قاعة للدبلوماسيين وقاعة للباحثين وقاعة للعموم ومطعما راقيا نظيفا ومراكز مختصة في الكتب والمخطوطات.
هذا الأمر يصدق على السنغال، الجار القريب، المشابه، من حيث الإمكانات، إذ ورث هذا البلد الإفريقي الفقير تراثا استعماريا هائلا من الوثائق ومن المطبوعات، صانهما ويسرهما للباحثين و قام ببناء المتاحف ومراكز البحث، ما يتجاوز مستوى موريتانيا بأضعاف مضاعفة.
تمتلك الدولة السنغالية وعيا راقيا بالتاريخ حتى أنها وبمكر حقيقي قامت بشق قناة عبر ما يسمى "اللسان البربري" وهو امتداد ترابي داخل البحر كان مقر إحدى القبائل الصنهاجية المرابطية، وتريد السنغال القضاء عليه خشية أن يذكرها بوجود موريتاني تاريخي مؤكد.
مخطوطات موريتانيا في البوادي والقرى والمدن العتيقة تواجه كوارث حقيقية، أفدحها السرقة والبيع الخفي والعلني والضياع بين أيدي العابثين وحتى بقايا الأسر التي يترك أطفالها تراث أسلافهم بسبب الفقر أو الهجرة أو حتى اللامبالاه.
إذا لم يتم إعادة الاعتبار للمكتبة الوطنية بتجهيز مادي وتقني وخبراء مختصين وجرد سريع وعلني للمحتويات وحراستها بشكل صارم، فسينتهي وجود هكذا مؤسسة تشكل في عالم اليوم ركنا ركنا في المؤسسات الثقافية الوطنية.
قسم المخطوطات يجب أن يتحول إلى جزء من المكتبة الوطنية في أقسام متكاملة مخازن و مراكز فهرسة وصيانة ومطالعة وتصوير رقمي سريع لكل ورقة في مخزن المخطوطات وتصوير رقمي لكل ورقة تحت خيمة أو عرش أو منزل داخل البلاد، قبل أن تحل الكارثة.
يجب أن ينتهي ما يسمى زورا "المعهد الموريتاني للبحث العلمي" في شكله القديم المنتهي ووضعه الحالي الفضائحي وتحويله خارج دار الثقافة وتحويله المعهد الموريتاني للبحث العلمي في إطار الجامعة وتحت إشرافها يؤطر الباحثين غير المدرسين ويتفرغ له كبار الأساتذة ويتابع الأبحاث النظرية والتطبيقية وينسقها ويصدر مجلتين دوليين في العلوم والآداب، ويقوم عبر أقسام مختصة ومجهزة ويرأسها باحثون مقتدرون مع باحثين مساعدين يقومون إصدار أعمال مرجعية كخرائط وكتب وموسوعات ونماذج مصورة ودلائل عبر مسح علمي حقيقي للنبات والحيوان واللهجات والأمكنة والآثار والتاريخ والحضارة والمناخ والجغرافية والتربة والأشجار والفلكلور و التراث الشفهي و ذاكرة الدولة المعاصرة.
ومن دون تخليص الجامعة نفسها من كارثة السياسة والجهوية والعرقية وأشباه المدرسين والباحثين والمجاملة والتسيب الأكاديمي، فلا مكان لكل تلك المطالب.
يجب أن تبقى دار الثقافة مقرا خاصا بالمتحف والمكتبة الوطنية فقط، وأن تتم حراسة هذه الدار ليلا ولو بقوة من الحرس، ولم لا، والثقافة والتراث والآثار، لا تقدر بثمن وضياعهما يساوي ضياع أمة بأسرها.
كما يجب منع دخول أي شخص غير مختص أو معني إلى دار الثقافة صونا لحرمة الثقافة وأهلها.
لن يتحقق شيء من ذلك إلا باكتتاب جدي وعلمي ودقيق وشفاف لـ 100 باحث وتقني في المكتبات والتوثيق والآثار والمخطوطات، فلن تجد تلك المهمة الصعبة من يحملها على عاتقه، وسيبقى البحث مجرد أماني ومزاج المتطفلين على العلم والبحث، وميدانا للتجارب الفاشلة.
ومن دون تخليص الثقافة والبحث العلمي من التوظيف السياسوي و المتطفلين على العلم والمعرفة والثقافة، فلن يتغير شيء مطلقا.
ما ينقص الثقافة والبحث العلمي في موريتانيا هو الإرادة السياسية الغائبة في هذا البلد الذي سيواجه في بضع سنين كارثة محققة لن يمكن تلافيها، و لات ساعة مندم !