هناك نماذج من الكتـابات العربـية تحاول تصويـر الصراع الفـكري الراهـن فـي المنطقة وكأنه بين إتجاهين : " ديمقراطي " و " ديني"، وهذه الكتابات لا تخرج عن المألوف في التاريخ العربي المعاصر حينما كان العالم ، لأكثر من نصف قرن، ينقسم بين شرق "اشتراكي" وغرب "رأسمالي"، وهي الفترة التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية ، والتي عُرفت باسم الحرب الباردة بين قطبي العالم .
فبينما كان "القطب الغربي" يطرح "الديمقراطية" كرمز له وكعلاج سحري لمشاكل المجتمعات ، كان " القطب الشرقي" يدعو للاشتراكية والعدالة الاجتماعية كطرح مضاد ومقابل للطرح الغربي الرأسمالي .
وكانت دول العالم الثالث تبحث عن مكان لها في عالم تسوده القطبية الثنائية الحادة. لكن دول العالم الثالث ( وهي المنطقة العربية وأفريقيا وأميركا اللاتينية وقسم كبير من آسيا ) كانت تعيش همّاً إضافياً يختلف في طبيعته عن هموم دول "العالم الأول" الغربي و"العالم الثاني" الشرقي... فقد كان الهمّ الأول لدول العالم الثالث هو التحرّر الوطني والقومي من السيطرة الاستعـمارية المباشرة التى ميّزت القرن التاسـع عشر والنصف الأول من القرن العشرين .
صحيح أنّ " الديمقراطية " و " العدالة الاجتماعية" هما أساس لبناء المجتمعات من الداخل لكن ذلك لا يعلو على مسألة التحرّر من سيطرة الخارج ، فعندما يخضع شعب ما للاحتلال أو للسيطرة الخارجية، فإنّ مفاهيم ووسائل تطبيق الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية ، ستكون فقط بما يتناسب مع مصالح المحتل أو المسيطر، لا بما يؤدي إلى التحرّر منه أو من نفوذه المباشر.
ويتضّح هـذا الأمر أكثر بمراجـعة كيفـية إصرار القطب الشيوعي العالمي خلال القرن العشرين على تهمـيش أي دور لـلإرادة الوطنـية الحـرّة فـي المجتمـعات التـي كانت تسـير فـي فلـكه، وعلـى تهـميشـه، بـل ورفضـه، لأي طرح ديمقراطي وطني مستـقل. كذلك كـان الأمـر عـلى الطرف الآخـر الـذي كان يريد تهمـيش كـل طـرح اجتماعـي عادل ، وإبقاء السيـطرة الاقتـصادية للشركات الغربية الكبرى تحت حجّة " حرية السوق " و" النظام الاقتصادي الحر" وشعارات الديمقراطية الرنّانة.
وقد سعى " الشرق " الشيوعي و "الغرب" الرأسمالي، في عقود "الحرب الباردة"، إلى وضع العالـم كلّه أمام خيار " الأبيض والأسود " ، فإمّا مـع هـذا الطرف فكرياً وسـياسـياً واقـتصادياً وعسكـرياً ، بـل وحتـى ثقافـياً ، وإمّا ضدّه بالـكامـل إذا جـرى الاعتراض أو الاختلاف مع بعض طروحاته!
هذه مرحلة قد خلت لكن ما زال منـهج الفـرز الفكـري الاستقـطابـي الحاد هو وسيلة القطب الغربـي الأميـركـي من جـهة ، كما هـو فـي أسـلوب القـوى المـناهـضة الآن للسيـاسة الأميركية، بينما يشهد العالم حالة فوضى من الطروحات التي تتفاعل داخل كل مجتمع.. وهـي طـروحات تشـمل الـدين والعلـمانية ومسـألة الإرهاب ، والقومية والعنصرية، والإنغلاق الطائفي والعرقي في عصر التكتلات الاقتصادية الكبرى.
لكن هناك نماذج عالمية معاصرة قد يستفيد العرب من تجاربها:
التجربة اليابانية: فاليابان خرجت من الحرب العالمـية الثانـية مدمّـَرة ومهـزومـة وعاشت تجـربة استخـدام السـلاح النـووي ضدها - وهـذا ما لم يحصل في أي مكان آخر بالعالـم – ورغـم ذلك استطاعت اليابان أن تخرج من تحت الأنقاض وتعيد بناء ذاتها لتكون الآن منافساً إقتصادياً لمن أذلّها في الحرب العالمية الثانية.
وفي هذه التجربة اليابانية ،يبرز التمسّك الياباني بالبعد الحضاري الخاص ، وعدم الخلط بين استيراد العلم والمعرفة التكنولوجية، وبين المحافظة على التراث الثـقافـي القومي لليابانيين .
التجربة الألمانية : حيث لـم ييأس شعب ألمانـيا من إمكـانات وحدتـه ومـن عـوامل تكوينه كأمَّة واحدة – رغـم تقسـيم ألمانـيا لدولتـين وبناء ثقافتـين متـناقضتـين فيهـما لحوالي خمسين عاماً - وبناء "حائط برلين" الذي كان رمزاً لانقسام العالم بين شرق شيـوعـي وغرب رأسمالـي ، فإذا بشعب ألمانيا يدمّر هـذا الحائـط ولا يقـبل بتدمير عناصر وحدته القومية .
وفي هذه التجربة الألمانية الفريدة ، يبرز تمسّك الشعب الألمانـي بالبعد القومـي الخاص ، والذي استطاع تجاوز كل عـوامل التفرقة المصطنعة التي زُرعت لنصف قرن من الزمن وسطه .
تجربة جنوب إفريقيا : وفي هذا النموذج المهم أيضاً ، تتضح أهمية القيادة السليمة ، وضرورة وضوح الهدف المركزي والإخلاص له ، والإصرار علـى تحقـيق الهدف وعلى الأسلوب السليم من أجل الوصول إليه .
فمن يرى في الأمَّة العربية ، أمَّة متخلفة، فليقارنْ مع جنوب إفريقيا التي أعلن قائد تحررها من النظام العنصري ، نيلسون مانديـلا ، أنَ نسبة الأمية فـي بلده كانت بعد إسقاط النظام العنصري ، تفوق الـ 70% من عدد السكان!
ومن يرى في اختلاف العرب " وحروبهم القبلية" مانعاً لوحدتهم المستقبلية أو لبناء مستقبل عربي أفضل ، فليـقارن أيضاً مـع جنـوب إفريقـيا التـي لـم تكن فقط مجتمعاً منقسماً بين سود وبيض ، بل أيضاً بيـن قبائـل سـوداء متـناحـرة لعشرات السنين مع بعضها البعض .
ورغم كل عناصر الفرقة والتخلّف والأمية في جنوب افريقيا، فإن التمسّك بالهدف والإصرار على تحقيقه من خلال سبل سليـمة وتحت قـيادة مخلـصة ، حـرّر جنـوب إفريقيا من نظام عنصـري بغـيض، وحافـظ عـلى وحدة المجتـمع ، وأوقف الحروب الأهلية القبلية، وبدأ في بناء نظام اجتماعي ديمقراطي فيه حصّة لكل أبناء المجتمع رغم تباين اللون والعرق والمصالح !
ففـي هذه النماذج المختلفة من تجارب العالم المعاصر، ما يعزّز الأمل بإمكان بناء مجتمع عربي أفضل ، شرط الجمع بين حصيلة دروس هذه النماذح . فالبعد الدينـي والحضاري الهـام لدى العـرب لن يكفـي وحده لمعالجة الأزمات التـي تعـصف الآن بالأمَّـة من كلِّ حدب وصـوب ، ومن الداخـل والخـارج ، فـهذا البعـد هـو أساس هام للمنطلق ولبناء الأساس الفكري والخلقي والقيمي لأي حركـة إصلاح عربـية.. لكنه يحتاج إلى استكمالٍ بعناصر أخرى ، خاصة في ظلّ واقـع التجـزئة والانقـسام الـذي امتـزج بالتغـريب الثـقافـي ، وبطـرح بـدائـل حضاريـة قـديـمة للحـضـارة العـربـيـة والإسلامية .
فـفي المنطـقة العربـية وحدها ، لا يصحّ إلا الطرح المشترك بين البعد الحضاري الديني وبين البعد العـروبـي القـومـي ، ولا يمكن إسـقاط أحدهـما عربـياً دون إسقاط الآخر، وهـذا ما حصل فـي بـلاد العـرب بمطلع القـرن العـشرين حينما ارتبط تقسيم المنطقة بطرح التغريب الثقافي والعودة إلى الحضارات القديمة .
ولن يكـون للبعـدين الحضاري والعروبي، أي امكانية تغيير أو إصلاح في أحوال أمّة العرب، ما لم تتوفّر أيضاً القيادات المخلصة النزيهة التي تضع مصلحة شعوبها فوق مصالحها الخاصة ، ومصالح أوطانها فوق مصالح أنظمتها ومنظماتها ، والتي تضحي بنفسها في سبيل الهدف، وليس العكس !
ولعلَّ فـي كلّ هـذه النـماذج ودروسـها ما يـؤكّد الحاجـة أيـضاً إلى التمسّك بشعار الحرّية وأبعاده المختلفة داخلياً وخارجياً : للأنظمة والأوطان في تحرّرها من تبعـية الخـارج ، وللشعـوب فـي تحـرّرها من أي احتـلال أو نـظام حكـم دكـتاتـوري.. فالديمقـراطية هـي الحـلّ للعـلاقات السليـمة المنـشودة بين الأفـراد والقـوى المـؤلّـِفـة للمجتمع ، وأيضاً للعلاقات بين الأوطان والشعوب.
إنّ الحـرّيـة ، بمعناها الشامل ، كانت وستـبـقـى ، ركـن مهـم فـي كـل الـرسـالات السماوية ، والقـيم الإنسانـية العامـة. الحرّية التي تبقى عاجزة وناقصة إذا لم تترابط فيها مسألة التحرّر من سيطرة الخارج مع مسألة التحرّر من الاستبداد الداخلي.
الحرّية ، التـي هـي كالطـير، بحاجـة إلى تكامـل جناحـي الديمـقراطـية السـياسـية والعدالة الاجتماعـية ، حتى تستطـيع التحليق عالـياً.
الحـرّية هـي القضـيـة الـمـلازمـة لـوجـودالإنـسـان أينـما كـان ومنـذ بـدء الحـياة الإنسانـية علـى الأرض.
الحـرّية هـي التـي ترتـبط بحـقّ الاختـيار، وبالـتالـي ، الارتباط مع ميزة الإنسان بأنّه صاحب إرادة ومشيئة لعمل شـيء ما أو فـعل عكـسه .
من هـنا تكـون ضـرورة الديمـقراطـية بـما تعـنيـه من مسائـل مرتبـطة بالانتخاب والتمثيل ونظام الحكم السياسي.. لكن لـيس حكـماً أن ترتـبط الديمقـراطية السياسـية بالمساواة والعـدل.
كذلك ليس بالضرورة أن ترتبط الممارسة الديمقراطية بالقيم الدينية والأخلاقية، وأيضاً ليـس بالضرورة أن ترتـبط الديمقـراطـية بحرّية الوطن أو الأرض ، باعتبار أنها تحصل الآن كأسلوب للحكم بين المواطنين وليست كشريعة للتعامل بين الدول.
فالأنظـمة الديمقـراطـية الغربـية عمـوماَ حرصت على النـظام الديمقراطي داخل مجتمعاتها بينما أباحت لنفسها استعمار واحتـلال شعـوب أخـرى ، فهي ديمقراطيات قامت عـلى نهـج عنصري استـباح الشعـوب الأخـرى وثـرواتها. وهـي ديمقراطيات غيـر عادلـة فـي مجتمـعاتها أحياناً ، كما كان تاريـخ العـلاقـة بين السود والبيض في أميركا رغم عدم تطابـق الممارسـة العنـصريـة مـع نصوص الدستـور الديمقـراطـي الأميركـي. كـذلك لجهـة حقـوق المـرأة حيـث حصلت المـرأة الأميـركـية عـلى حقها بالانتخاب بعد أكثر من 125 سنة من وضع الدستور!
الديمقـراطـية الغربـية لـم تكـن أيـضاً مرتبـطة بالعدل الاجتماعي بين الناس حيث القوي الغني يأكل الضعيف الفقـير، وهـذا سياق طبيعـي للترابط الحاصل في الغرب بين الديمقراطية في نظام الحكـم السياسي وبين مقوّمات الاقتصاد الرأسمالي.
وقد واجهت ، وتواجه ،دول العالم الثالث ومنها المنطقة العربية، تحدّيات هامّة في سعيها نحو الديمقراطية. فالممارسـة الديمقـراطـية السليـمة تحـتاج إلى استقرار أمني داخلـي فـي المجتـمع ومن حـولـه ، لأنّ أسلـوب العـنـف (من أي جهة صدر) يعطّل الممارسة الديمقراطـية ، كما أن التـهديدات عـلى وحـدة الكـيان الوطني تعطّل الحياة الديمقراطية.
كذلك ، فإنّ التعامل مع المسـألـة الديمـقراطـية في المنطقة العربية لا يمكن أن يتمّ بمعزل عن تحدّيات الوجود الإسرائيلي وأطماعـه السياسـية والاقتصادية ، وتحدّيات الإرادة الأجنبية في فرض التجزئة والتخلّف على الأمّة العربية منذ عشرات السنين.
إنّ الديمقراطية السياسية والتكامل الاتحادي وجهان لمشروع عربيّ واحد لمستقبل أفضل ، وعماد هـذا المشروع هـو مفهوم الحرّية الشامل للمواطن العربي وللأوطان العربية، للإنسان وللأرض معاً.