إعلان الجزائر اعتزامها تزويد بلدة تونسية حدودية بالغاز الطبيعي، في ذكرى مجزرة مروعة ارتكبها الفرنسيون في 1958، راح ضحيتها عشرات القتلى من التونسيين والجزائريين بينهم أطفال، تزامن مع تحديد باريس 24 أبريل / نيسان، "يومًا لإحياء ذكرى إبادة الأرمن" المزعومة في 1915، دون أن تلتفت إلى مجزرة ساقية سيدي يوسف وغيرها من الجرائم.
والجمعة، احتفلت الجزائر وتونس بذكرى مجزرة ساقية سيدي يوسف، والتي وقعت في 8 فبراير/ شباط 1958.
ففي ذلك اليوم، قامت 27 طائرة مقنبلة فرنسية من نوع "بي 27"، تحمل قنابل تزن الواحدة منها ربع طن، وصواريخ جو أرض، بقَصف القرية بوحشية، بداية من الساعة 11.10 بالتوقيت المحلي (10:10 ت.غ)، ولمدة تفوق ساعة من الزمن، والتي ألقت فيها بأطنان من القنابل، تزامن ذلك مع السوق الأسبوعي بالقرية، بحسب كتب تاريخية وشهادات مسجلة.
ولتضليل الرأي العام الدولي، أصدرت قيادة الجيش الفرنسي، بيانا حينها، قالت فيه، إن الطائرات الفرنسية دمّرت مراكز الثوار الجزائريين، على بعد 1.5 كلم عن قرية "ساقية سيدي يوسف" التونسية بنسبة 50 بالمئة.
جدير بالذكر أن تونس كانت حينها دولة مستقلة (1956)، لكن باريس أبقت بتواجد عسكرية لها في البلاد، بينما كانت الجزائر حينها في ذروة حربها التحريرية ضد الفرنسيين (1954-1962).
وبعد المجزرة بساعات، توجه صحافيون ومصورون تونسيون وفرنسيون وحتى أجانب، إلى ساقية سيدي يوسف، لتصوير مراكز الثوار الجزائريين "المدمرة"، لكنهم أصيبوا بذهول عندما رؤوا أن قرية دمّرت بأكملها ودُفن أهلها تحت الأنقاض، واستهدف سوقها الأسبوعي المكتظ بالناس، كما هُدّمت مدرسة القرية وتناثرت فوق أنقاضها أشلاء التلاميذ وأدواتهم المدرسية.
ولم يجد الصحافيون والمصورون أي أثر لأي مركز لجيش التحرير الجزائري أو لجنوده أو سلاحه، وتأكّد حينها الرأي العام العالمي من كذب الدعاية العسكرية الفرنسية، خاصة بعد توثيق الإعلام الدولي لقصف مدنيين عزل، في دولة مستقلة، واستهداف حتى اللاجئين الجزائريين الفارين من جحيم الحرب، التي حاولت فرنسا التعتيم على حقيقة ما يجري من جرائم داخل الجزائر.
** مظاهرات الجلاء.. وواشنطن ولندن تتدخلان
خلفت المجزرة الفرنسية، التي سوّت قرية بأكملها بالأرض، غضبا في أوساط الشعب التونسي، وخرجت مظاهرات عارمة في عدة مدن تطالب بجلاء القوات الفرنسية من البلاد.
ورفعت تونس شكوى إلى مجلس الأمن الدولي، في 12 فبراير 1958، تُطالبه بإدانة هذه الجريمة، وتدخلت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا للوساطة بين تونس وباريس لتهدئة الأمور.
ورافق هذه التحركات الدبلوماسية الأمريكية والبريطانية، ضجّة إعلامية دولية، أربكت السلطات الفرنسية، ووضعتها في قفص الاتهام، كما أعادت تسليط الضوء على الجرائم الفرنسية في الجزائر.
** خلفيات المجزرة الانتقامية
في 11 يناير/ كانون الثاني 1958، هاجم الثوار الجزائريون، بقيادة الرائد الطاهر الزبيري (أصباح قائدا للأركان/ 1964-1967) على ثكنة فرنسية في جبل واسطة، لا تبعد عن الحدود التونسية سوى بنحو 30 كلم، وقتلوا خلال المعركة 17 ضابطا وجنديا فرنسيا، وأسروا 5 آخرين.
وحسب شهادة منشورة للرائد الزبيري (مذكرات آخر قادة الأوراس التاريخيين)، فإن هذه المعركة حضرها صحفي نمساوي يُدعى "كارل بريار"، والذي كان بصدد إنجاز روبورتاج عن جيش التحرير الجزائري.
وتوجه الصحفي بريار، بعد المعركة إلى باريس، وأكمل الروبورتاج حول تفاصيل المعركة، واتصل بمجلة "باري ماتش"، واتفق مع رئيس تحريرها على منحه الروبورتاج مقابل 5 ملايين فرنك فرنسي، بحسب الزبيري.
وما إن نشر الروبورتاج حتى أحدث ضجة كبيرة وسط الرأي العام الفرنسي، الذي اكتشف الوجه الآخر لهزائم جيشه في الجزائر، والتي كان يتم التعتيم عليها إعلاميا.
إذ لم يكن الجيش الفرنسي يعترف بوجود ثورة في الجزائر، بل كان يسميها "أحداث الجزائر"، وهذا الروبورتاج أجلى بعض الحقيقة للرأي العام حول ما يجري في هذه البلاد ما وراء البحر.
** تهديدات فرنسية لتونس بسبب الجزائر
اتهم الجيش الفرنسي، الحرس الوطني التونسي بدعم جيش التحرير الجزائري، وادّعى أنّ شاحنات للحرس التونسي نقلت الجنود الجزائريين إلى قواعدهم جنوب قرية ساقية سيدي يوسف.
وهذا الأمر ينفيه الزبيري، الذي يؤكد في شهادته أن الحرس التونسي كان له مراكز بالقرب من الحدود الجزائرية، وعادة ما يرابط بالقرب من هذه الحدود لمنع جنود جيش التحرير أو العساكر الفرنسيين من الدخول إلى تُرابه، خاصة عند وقوع معارك بالقرب من الحدود، لكنه لم يقدم أي نوع من الدعم لجيش التحرير في هذه المعركة.
لكن الصحافة الفرنسية تحركت لصالح ترجيح نظرية تواجد الأسرى الخمسة على الأراضي التونسية.
ويكشف الزبيري، في شهادته التي نشرها في كتاب "مذكرات آخر قادة الأوراس التاريخيين"، أو تصريحاته الصحفية، أنه أخفى الأسرى بمزرعة للثوار الجزائريين داخل الأراضي التونسية على الحدود، يشرف عليها شقيقه الأكبر بلقاسم، ولم يُعلِم بذلك السلطات التونسية ولا حتى قادة الثورة الجزائرية، حتى لا يتعرض لضغوط لتسليم الأسرى.
ويكشف الزبيري، أنه استعمل الأسرى للضغط على السلطات الفرنسية لوقف تنفيذ أحكام الإعدام وقطع رؤوس الجزائريين بالمقصلة، ومن بينهم العقيد أحمد بن شريف (قائد الدرك الوطني الأسبق/ توفي في 2018)، مشيرا أنه منذ 1958 لم تنفذ بعدها أي أحكام إعدام بالمقصلة في حق الثوار والمناضلين الجزائريين.
وفي 16 يناير/ كانون الأول من نفس العام، سلمت الحكومة الفرنسية لتونس رسالة لا تخلوا من التهديد والوعيد، بشأن دعمها للثورة الجزائرية، وإخفاء الأسرى الفرنسيين على أراضيها.
كما قامت طائرات الاستطلاع الفرنسية بتصوير مراكز الثوار الجزائريين داخل الأراضي التونسية، وأعلنت في 29 يناير 1958، حقها في متابعة الثوار في أي مكان يتواجدون فيه، متهمة تونس بأنها أصبحت قاعدة خلفية لجيش التحرير الجزائري.
وفي 2 فبراير، باع سينمائي إنجليزي صور فيلم عن أماكن تمركز الثوار الجزائريين في تونس، وأصبح لدى الفرنسيين ما يكفي من الأدلة حول دعم تونس للثوار.
وفي ظل هذه الأجواء المشحونة، وقعت اشتباكات بين وحدات من جيش التحرير الجزائري والجيش الفرنسي، على الحدود التونسية، بحسب شهادة العقيد علي كافي، أحد قيادات الثورة (تولى رئاسة المجلس الأعلى للدولة في 1992-1994).
ولأن السلطات الاستعمارية أقرت قانون حق التتبع، فإن العقيد علي كافي، حسبما جاء في مذكراته، أمر بأن يُحوّل جميع الجنود بعيدا عن المناطق الحدودية، واستنجد بمعتمد (رئيس دائرة أو قضاء) ساقية سيدي يوسف، لوضع ما لديه من سيارات وشاحنات لنقل الجنود، حتى لا يترك أي حجة للفرنسيين للقيام بعملية عسكرية داخل الأراضي التونسية.
وكما توقع العقيد كافي، شنت القاذفات الفرنسية، صباح 8 فبراير، غارات جوية عنيفة، خلفت، حسب موقع السفارة الجزائرية بتونس، 79 قتيلا، بينهم 11 امرأة و20 طفلا، وأكثر من 130 جريحا، إلى جانب التدمير الكلي لمختلف المرافق الحيوية في القرية.
وأرجعت السفارة الجزائرية، فداحة الخسائر البشرية، إلى أن ذلك اليوم كان "عطلة وسوق. ويوم يوزّع خلاله المساعدات على اللاجئين الجزائريين من طرف الهلال الأحمر الجزائري، والصليب الأحمر الدولي"، ووصفتها وسائل الإعلام العالمية بـ"المجزرة الرهيبة".
ومنذ ذلك التاريخ، أصبح "8 فبراير"، يوما يحيي فيه التونسيون والجزائريون ذكرى مجزرة "ساقية سيدي يوسف"، يوم اختلطت فيه دماء الشعبين، ولم تتمكن الغارة "الانتقامية" الفرنسية ضد المدنيين العزل، من ثني تونس عن دعم الثوار واحتضان آلاف اللاجئين الجزائريين.