حينما تقرر في مؤتمر ابرازافيل 30/01/ 1944،إنشاء كيان سياسي وإداري لبلادنا، فُرض بشكل مفاجئ على جيل التأسيس أن يستعد لما سيتبع ذلك من خطوات قيام دولة نهضت تاريخيا بمحددات سيسيولوجية وثقافية استعصت إزالتها على فرنسا، فرضخت وقبلت بها كيانا كما هو، ضمن خريطة مستعمراتها فيما وراء البحار، وجاء انتخاب ممثل موريتانيا داخل الجمعية الوطنية الفرنسية 1946، ثم تدشين عاصمتها في الخامس من مارس 1958 على مشارف المكان الذي انطلق منه المرابطون في القرن الخامس الهجري، لتكون مدينة نواكشوط بالنسبة للموريتانين عاصمة وباب ميلاد موصول بالرحم وأزمنة التاريخ المشرق، وعلى أحراش جنبات دورها التي أقبلت من العدم نهض اهم شوارع المدينة حاملا اسم اكبر عناوين ورموز التحرر العربي والعالمي المعاصرين و أندى صورهما وأعطرها، خالد الذكر جمال عبد الناصر، رحمه الله، الذي كان يعيش في أوج مجده وشهرته، بعد العدوان الثلاثي على مصر، ووسط احتدام الشعور الوطني في الوطن العربي والعالم الثالث ونهوض الحركات التحررية ضد الاستعمار وخاصة في إفريقيا، التي كانت تحتفي بموريتانيا وموريتانيا تحتفي بها على نطاق واسع.
لم يفكر أي من أنظمة الحكم التي تعاقبت على البلاد في تخريب معالم العاصمة التي تحتاج مثل كل المدن الى معالم تتراكم قيمتها ورمزيتها مع مرور الزمن، ولا سعى أي منها لطمس بعض من تاريخ المدينة الناشئ، بما في ذلك النظام الذي انتفض في وجهه التنظيم الوحدوي الناصري وقدم دماء الشهداء زكية في تلك الانتفاضة، فكيف لنظام تفصله أسابيع عن نهاية مأموريته الدستورية الأخيرة، وتعيش البلاد في ظله أكثر من تصدع في بنيتها الاجتماعية والسياسية والثقافية ويتعرض سلمها الأهلي لما لم يتعرض له منذ 1966، كيف له أن يكون ما لديه من حلول لذلك كله وما يودع به الموريتانيين هو مسيرة ومنصة غير آمنة وطبول إذاعة تريد انصياعنا لحلوله بمجرد شعار وتغيير اسم شارع تََحَوّلَ مع سنوات عمر الدولة إلى أحدى إيقونات العاصمة الجميلة وأبرز معالم مجالها الحضري الناهض. ذلك هو التيه والتخبط، وتفاهة المطامح وأفظع تسطيح وأوسع حالة من حالات الخصومة مع المجتمع، و لن يحل مشاكل الوحدة الوطنية ولا إخفاقات الحكامة المنفلتة على كل صعيد، و لن تموت به ان شاء الله رموز شمخت في نفس ووجدان أمة ومجتمع... لن تموت به ولن تؤول إلى عدم.
فقبلنا ذهب جنكيز خان وغادر هولاكو وبقيت دجلة الخير وجلجامش وقاسيون، واستمرت حاجة الإنسان إلى الدفاتر والكتب، وما به تدون قيم الوفاء التي يراد لنا أن نودعها إلى غير رجعة.