الحديث عن المأمورية الثالثة بدأ في وقت مبكر للغاية وبالذات ذات مساء خريفي من آب/أغسطس عام 2014، عندما أدى الرئيس محمد ولد عبد العزيز اليمين الدستورية لفترة رئاسية ثانية.
فقد كان للجزء الأخير من ذلك القسم الدستوري وقعه الخاص على الحضور في الملعب الأولمبي وعلى كل الذين تسمروا أمام شاشاتهم الصغيرة لمتابعة الحدث.
اشرأبت الأعناق وتسارعت دقات القلوب وخطر ذات السؤال ببال الجميع، معارضة وأغلبية ومستقلين وحتى من غير المهتمين بالسياسة وهمس البعض للبعض الآخر: هل يا ترى سيفعلها الرجل وينسحب بهدوء عند نهاية مأموريته الثانية والأخيرة، هو الذي جاء ذات يوم من خريف عام 2008 دون تأشيرة دخول ودون موعد مسبق؟
"...وأقسم بالله العلي العظيم أن لا أتخذ أو أدعم بصورة مباشرة أو غير مباشرة أية مبادرة من شأنها أن تؤدي إلى مراجعة الأحكام الدستورية المتعلقة بمدة مأمورية رئيس الجمهورية وشروط تجديدها الواردة في المادتين 26 و28 من هذا الدستور".
يبدو القسم واضحا كالشمس في رابعة النهار، لكنك إذا خلطت غياب أي تقليد للتناوب السلمي على السلطة مع فقدان الثقة بين أطراف المشهد السياسي مع كثرة المتربصين، ستجد أن في موريتانيا أرضية خصبة لنمو كل أنواع المخاوف والهواجس حول مستقبل دستور ما زال رخوا وطريا ولم ينشف ريقه ولا حبره بعد.
لم تكد تمض الأشهر الأولى من المأمورية الثانية حتى بدأ موضوع تعديل الدستور يدعو نفسه بنفسه إلى كل المؤتمرات الصحفية للرئيس وإلى كل بيانات المعارضة ومسيراتها ومهرجاناتها وأصبح نجم الصالونات السياسية والبرامج الإذاعية والتلفزيونية وصفحات المواقع الالكترونية وثرثرة الصباح في وسائل النقل العمومية.
لا يستطيع أحد اليوم أن يقول لك كيف بدأ الكلام عن التعديل الدستوري ولا متى بدأ ولا من الذي بدأه ولا كيف سينتهي ولا من الذي سينهيه، فلحظة ولدت المادة 28 وملحقاتها نمت حولها وبشكل طبيعي كل نقاط الاستفهام والتعجب الممكنة، لأن العقل السياسي الموريتاني لم يتطور منذ ستينات القرن المنصرم، وبقي مصرا على عدم التعامل مع أية صورة أخرى للحاكم، غير صورة الزعيم الذي لا يغادر القصر إلا إلى المنفى أو الأسر حتى لا نقول إلى القبر.
كان يمكن للحوار الوطني الشامل لو انتظم أن يساهم في حلحلة هذا الوضع غير المريح، لكن الأمر اقتصر على مهرجان للفرص الضائعة والتهم المتبادلة، ووجدنا أنفسنا في النهاية أمام مشهد سياسي بائس: معارضة معقدة، لم تعد قادرة على إنتاج أية أحلام من كثرة الكوابيس التي تحيط بها وأغلبية مطاطة ومائعة للغاية، كل خطابها السياسي مختزل في عبارة واحدة "دعم غير مشروط لبرنامج رئيس الجمهورية".
ومن الطبيعي والحال هذه أن يتحول المشهد السياسي إلى أرضية خصبة لا تكاد ترمي فيها شائعة إلا وفرخت لك عشرين خبرا وستين حكاية وثمانين قصة ومائة سيناريو وألف "مصدر" يفضل عدم الكشف عن اسمه، وأما الرأي العام فمن كثرة ما تعرض ل"تجربة بافلوف" أصبح ريقه يسيل لأي شيء، دون أن يكون بحاجة إلى من يتطوع ويدق له الجرس.
الجدل الحالي حول الدستور يمكن أن نخلع عليه جميع الأوصاف والألقاب لكن المؤكد هو أنه ليس جدلا دستوريا ولا قانونيا البتة، ذلك أن كل طرق تعديل الدستور تمر حتما عبر الباب الحادي عشر والمادة 99، التي أغلقت جميع السبل وبشكل لا يقبل الشك أو التأويل أمام أية مراجعة لعدد المأموريات الرئاسية:
"...لا يجوز الشروع في أي إجراء يرمى إلى مراجعة الدستور، إذا كان يطعن في كيان الدولة أو ينال من حوزة أراضيها أو من الصبغة الجمهورية للمؤسسات أو من الطابع التعددي للديمقراطية الموريتانية أو من مبدأ التناوب الديمقراطي على السلطة والمبدأ الملازم له الذي يحدد مدة ولاية رئيس الجمهورية بخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، وذلك طبقا لما تنص عليه المادتان 26 و28 المذكورتان سالف".
لاحظ معي أن الزجر هنا لم يقتصر فقط على عدم جواز الشروع في هذا الإجراء، بل تجاوز ذلك إلى مقارنته بخطوط حمراء لا يمكن لأحد أن يتجرأ على مجرد الاقتراب منها: "الطعن في كيان الدولة، النيل من حوزة أراضيها أو من الصبغة الجمهورية للمؤسسات".
بالمختصر المفيد الطريق إلى المأمورية الثالثة غير سالكة، على الأقل، من الناحية الدستورية.
البشير عبد الرزاق