الغلظ والرّگة: الزواج وفق قاعدة "خيام كبيرة وخيام صغيرة"

خميس, 21/08/2025 - 11:51

(مقتطفات من بحوث سابقة) حلقة 1:

القاعدة العامة لِمَنْح النِّساء وتبادلهن في المجتمع البيظاني:

يربط المجتمع البيظاني "الغلظ" و"الرقة" بأحاديث مختلقة ينسبها إلى الرسول أو إلى أحد الصحابة فيقيم بناء على هذا الربط رؤية "دينية" جمالية لمعايير الجمال المحلية، وتفيد هذه الأحاديث الأسطورية أن "المرأة الرقيقة (الرشيقة) مُستعاذٌ منها" (مُعَوَّذْ منها) في نوع من النسج على منوال الأحاديث الشريفة التي تستعيذ من بعض الأشياء أو الصفات. تتم هنا استعارة صفتيْ "الغلظ" و"الرقة" من القاموس الجمالي النفعي للسمنة، سمنة النساء (وسمنة الحيوان)، فالبدانة هي الشرط الأول المعترف به فيما يتعلق بمعيار جمال المرأة في المجتمعات الصحراوية وخصوصا المجتمع البيظاني لعدة اعتبارات وأسباب سنتناولها في الفصل الرابع من الدراسة.

يمثل الزواج في الثقافة البيظانية كذلك ـــ وهو الأهم بالنسبة لموضوعنا ـــ مؤسسة دينية تراعي "التدين الاجتماعي" الخاص بمختلف الفئات الاجتماعية وصراعاتها المنزلاتية التراتبية. وهنا يتم توظيف "الأسطوري" في "الديني" لإنتاج خطاب زواجي تتم شَرْعَنَتُه على أنه يمثل مطلب الشريعة في الزواج، في الحين الذي هو في حقيقة الأمر لا يخضع إلا للتنافس الصراعي بين القبائل والشرائح والإثنيات، فهو إذن مجرد امتداد لسلسلة الصراعات التراتبية على تَصَدُّر المكانة العليا في قمة الهرم الاجتماعي وما يستتبع ذلك من محاولات تجذير وتكريس لتثبيت تلك التراتبيات الاجتماعية أو تغييرها.

وإذا كان الزواج ـــ على الأقل في جزء منه ـــ في الكثير من المجتمعات "الغربية" شأن "فردي"، وفي المجتمعات "البدائية" مؤسسة تدور أساسا حول مبادلات اقتصادية ، فإنه في المجتمع البيظاني عبارة عن استراتيجيات سياسية ـــ تَدَيُّنِيّة بدرجة أولى. 

أي انه يمثل الزواج في المجتمع البيظاني مؤسسة داخلية للفئات الاجتماعية تتحكم في شؤون الحياة من طرف سلطة المجموعة الاجتماعية (القبيلة بدرجة أولى) على استقلالية "الشباب" لما في ذلك من تهديد (حقيقي أو وهمي) للبنية الاجتماعية ـــ السياسية المحكومة من طرف الكبار. وهو يمثل في ذات الوقت مؤسسة سياسية للتعامل فيما يخص العلاقة مع المجموعات الأخرى حيث يعمل الزواج في هذه الحالة على خلق التوازنات الاجتماعية ـــ السياسية بين الفئات الاجتماعية (القبائل، الشرائح، الإثنيات)، وبناء على هذا فإن القبيلة تُزوِّج بناتها من قبيلة أخرى تطمح الأولى إلى إقامة نوع من العلاقات الايجابية معها، بينما تمنع ذلك الزواج من القبائل "المُعادية" أو المختلفة على مستوى "التمثلات الدينية" التي تحملها الأولى عنها. وما تزال هذه الصيغة من الزواج منتشرة بكثرة في العديد من الأسر الموريتانية في عالم اليوم حيث نشاهد القبيلة (أ) لا يمكنها الزواج من القبيلة (ب) بحكم أنها لا تتفق معها في "الإيديولوجيا التَدَيُّنِيّة". ويمكننا من جهة ربط نمط الزواج البيظاني بشقيه "الزواج الداخلي" و"الزواج الخارجي" بنمط الزواج في المجتمعات "البدائية".

تتجسد "الكفاءة الاجتماعية" أو ما نسميه "النسابة الاجتماعية" في مجال الزواج لدى المجتمعات القبلية وفق أنماط متشابهة لدرجة كبيرة حسب ما يذهب إليه بورديو «عندما يشكل اكتساب رأس المال الرمزي [غلظ، فتوة، تدين، ولاية، صلاح، بركة، كاريزما. إلخ]، كما هي الحال عند القبائل، الشكل الوحيد للمراكمة المُمْكنة تقريبا، فإن النساء قِيَمٌ يتعين حفظها بمنأى عن الإهانة والرّيبة، والتي وُظفن في مبادلات، يمكن أن ينتجن تحالفات، أي رأس مال اجتماعي وحلفاء مهيبين، أي رأس مال رمزي، وبقدر ما تستطيع قيمة تلك التحالفات، وبالتالي الفائدة الرمزية التي يمكن توفيرها، تتبع في جزء منها بالقيمة الرمزية للنساء الجاهزات للتبادل أي سمعتهِن وعفّتِهن بالتحديد».

لقد عمل الأنثروبولوجيون في مختلف الثقافات على تبيان مثل هذه الصراعات التنافسية مختلف المجتمعات البشرية فيما يتعلق بظاهرة الزواج. يتحدث ليفي شتراوس عن نوْعيْ الزواج الخارجي والداخلي كاستراتيجيات للتحالفات الرجالية بتوسط من النساء اللاتي يشكلن في هذه الحالة "موضوع التبادل".

إن "منح النساء" الواقع ضمن إطار "المبادلات" من طرف مجموعات الرجال هو القاعدة "الثابتة" الوحيدة فيما يتعلق باستراتيجيات الزواج لدى المجتمعات ما قبل الحديثة . وفي المجتمع البيظاني تتعرف الفئات الاجتماعية على بعضها وتصنف بعضها دينيا من خلال إمكانية "منح النساء" أو عدمها بين مجموعة "أ" ومجموعة "ب". وفي هذا المجتمع تتوزع حالاتٌ أربعٌ من "الاستراتيجيات الزواجية" كما في الجدول التالي: 

الجدول...........

يُقرأ الجدول أعلاه بناء على مبدأ "الكفاءة الزواجية" التي يضعها البيظان ضمن أولوياتهم في الاستراتيجيات الزواجية، هذه الكفاءة ذات معايير اجتماعية بامتياز ولكنها تلبس لبوس معايير "المقدس الديني" للكفاءة فتنتقل من التحديد الإسلامي "كفاءة الدِّين والحال" إلى التحديد الاجتماعي "كفاءة النسب القَبَلي"، وهي تنتهج هذه الحيلة عن طريق اختراع "مراوغ" يجعل "الكفاءة النسبية" هي ذاتها الكفاءة الدينية حيث هناك "القبائل النسيبة" (تعني الكلمة باللهجة الحسانية القبائل التي لها أصول محترمة) أي القبائل التي تسمى عند البيظان ب"القبائل الغليظة" في مقابل "القبائل الرقيقة" وهي الشرائح التي لا يتم منحها مثل تلك الأصول "المحترمة". ان القبائل الغليظة هي التي تستجيب سوسيولوجيا لشروط حيازة ما يطلق عليه بورديو مصطلح "شهادات النبالة الثقافية وأحسابها" 

نذكر هنا أيضا أن هذا المبدأ الجمالي الذي تحدثنا عنه في الفقرة الأولى مبدأ ذو بعدين: بعد مأخوذ من الثقافة العربية الجاهلية التي تُعلي .....
يتواصل....