مهنة المحاماة في بلادنا على مفترق طرق: من واقعٍ متعثّر إلى أفق التحوّل

سبت, 09/08/2025 - 10:33
الأستاذ/ عبد الله اگاه

على امتداد أكثر من أربعة عقود، ظلت الهيئة الوطنية للمحامين تدور في حلقة مغلقة، تُعيد إنتاج ذاتها ضمن دورات انتخابية نمطية، عاجزة عن الانفكاك من منطق التكرار، فيما العالم يتغيّر من حولها، وتتزايد تعقيدات منظومة العدالة، وتتعمّق حاجة الناس إلى الإنصاف والحق.
لم تفلح الهيئة، رغم رمزيتها، في التحوّل إلى مؤسسة مهنية حقيقية، وإنما ترسّخت كيانًا هشًّا، مثقَلًا بالتآكل الداخلي، مرتهنًا لعجز بنيوي، ومعزولًا إلى حدّ القطيعة عن محيطه المؤسسي والاجتماعي، فاقدًا فاعليته، ومتراجعًا عن أداء أدواره الأساسية في الدفاع عن المهنة، وحماية منظومة العدالة، والانخراط في الشأن الوطني العام.
ورغم ما بذله جيل التأسيس من جهد، وما راكمته بعض النخب من محاولات إصلاحية متقطعة، تظل الحصيلة النهائية محدودة، إذ تفضح غياب المشروع الجامع، وتكشف ضبابية الرؤية، وتنطوي على انحسار الحضور المهني.
آن أوان طرح السؤال الجوهري: أي مهنة نريد؟ وأي هيئة نأمل أن تعبّر عن تطلّعات المحامين؟
هل نمارس المحاماة كما ينبغي، وفاءً لقيمها ورسالتها، أم كما اعتدنا، في سياق التكيّف المريح مع التراجع المهني والمؤسسي؟ بين المثال والواقع تتّسع فجوة باتت مقلقة، لا يصح التغاضي عنها، ولا يجوز التعايش معها.
إن هذه الوثيقة لا تكتفي بالتشخيص، ولا تنشد التوصيف المكرور، بل تروم أن تكون دعوة صادقة إلى مسار إصلاحي جماعي، ينطلق من عمق الألم، ويتسلّح بالأمل، ويرتكز إلى وعي مهني مدرك لحجم التحديات، ومؤمن بأن استعادة زمام المبادرة لا تكون إلا بإرادة واعية، ومسؤولية مشتركة، ورؤية تتجاوز المألوف نحو الممكن.
1- غياب المؤسسية

إن تأسيس هيئة المحامين لم يكن مجرد حدث إداري، وإنما كان لبنة أساسية لمهنة تتطلب قواعد تنظيمية صلبة تؤسس لاستقلالية وفعالية العمل المهني، إلا أن الواقع الحالي يكشف هشاشة البنية المؤسسية، التي لم تستطع أن ترتقي إلى مستوى التحديات.

رغم مرور أكثر من أربعين سنة على نشأة الهيئة، لا تزال تفتقر إلى أبسط مقومات العمل المؤسساتي:

▪ لا مقر دائم يرمز إلى استقلال الهيئة.
▪ لا سكرتيريا مهنية فاعلة، ولا إدارة نظامية.
▪ لا منصة رقمية، ولا أرشيف حديث.
▪ لا قاعدة بيانات دقيقة عن المحامين.
▪ لا لجان تنظيمية، ولا آليات حوكمة أو مساءلة.
▪ لا شفافية مالية، ولا تقارير دورية.
▪ لا مركز دراسات قانونية.
▪ لا شركات مهنية، ولا مكاتب جماعية حديثة.
▪ لا ممارسة للتحكيم أو الوساطة المؤسسية.
أما على مستوى التأطير والتكوين، فالواقع أشد قسوة:

▪ لا برامج موحدة للتكوين المهني.
▪ لا لجان إشراف، ولا نقل للخبرات.
▪ لا دليل تدريبي وطني.
▪ لا مسار مهني واضح للمتدرّبين.
وهكذا، ظلّ الانتساب إلى المهنة مغامرة فردية، محفوفة بالغموض، محرومة من التأطير، ومجردة من المعايير.

إن هذا التفكك يُحوّل الهيئة إلى كيان رهين للأشخاص لا المؤسسات، ويجعلها عاجزة عن التراكم والتخطيط، فاقدة للثقة من داخلها وخارجها.

2- طاقة بشرية معطّلة... وعزلة عن الداخل

من نافلة القول التذكير بأن الطاقات المهنية، خصوصًا الشباب، هم ثروة البلاد الحقيقية، ونجاح أي مهنة يتوقف على تأهيل واستثمار هذه الطاقات بشكل منسجم ومؤسسي.

لكن واقع المحامين الشباب في بلادنا يعكس قصورًا كبيرًا في استثمار هذه الطاقات.

رغم أن عدد المحامين يزداد باطراد، وغالبيتهم من الشباب، فإن هذه الطاقة معطّلة، بسبب غياب التأطير، وندرة فرص التكوين، وشحّ المبادرات التحديثية.

▪ لا دورات تكوين مستمر، رغم تغيّر المنظومة القانونية.
▪ لا معاهد أو شهادات مهنية متقدمة.
▪ لا بيئة محفّزة للتخصصات الحديثة (الاستثمار، الطاقة، الجرائم الرقمية...).
▪ لا برامج للابتعاث أو التبادل المهني.
والأخطر أن التوزيع الجغرافي كارثي:

▪ احتكار شبه تام للعاصمة.
▪ فراغ قانوني واسع في الداخل.
▪ غياب خطط للتقريب، أو استراتيجيات للتغطية الجغرافية.
وهكذا، حُرم المواطن في الداخل من حقه في الدفاع، وتحولت المهنة إلى ممارسة نُخبوية منغلقة، بينما تُثبت التجارب المقارنة في دول الجوار أن التوزيع العادل ممكن، إن وُجدت الرؤية والإرادة.

3- هشاشة اجتماعية... وكرامة مهنية مهدّدة

تُعد كرامة المحامي ومكانته الاجتماعية ركيزتين أساسيتين لمهنة مستقرة وقادرة على ممارسة دورها باستقلال ومسؤولية. لكن، الواقع يكشف عن حالة من الهشاشة الاجتماعية العميقة التي تهدد استمرارية المحاماة كمهنة، وتُضعف قدرتها على الصمود والتطور.
فالمحامون في بلادنا محرومون من أبسط أشكال الحماية الاجتماعية:
▪ لا وجود لتأمين صحي شامل.
▪ لا نظام تقاعدي يضمن الكرامة بعد سنوات الخدمة.
▪ لا صندوق دعم أو آليات تضامن مهني.
▪ لا برامج إسكان، ولا أدوات لضمان حد أدنى من الدخل.
وتبلغ هذه الأوضاع الكارثية ذروتها بشكل خاص لدى المحامين الشباب، الذين يواجهون تحديات التأسيس المهني في بيئة طاردة، تُقصي الكثير منهم قبل أن تزهر تجاربهم، مما يؤدي إلى انسحابات مبكرة، أو خنق مهني قبل النضج.
أما المحاميات، فالتحديات أكثر تعقيدًا وحدّة، إذ يواجهن غياب الاعتراف الكافي بتحديات النوع الاجتماعي داخل الوسط القانوني.
إن الإبقاء على هذه الأوضاع المختلّة يُهدد كرامة المحامي، ويُنذر بانهيار الروح الجوهرية للمهنة، فلا يمكن ممارسة المحاماة باستقلال ومسؤولية، في غياب الأمن الاجتماعي، وفي ظل تجاهل التحديات التي تواجه جميع مكوناتها.
في خضم هذا الانهيار، تتزايد محاولات الالتفاف على جوهر المطالب المهنية، من خلال تقديم "امتيازات" ظرفية وشكلية، أبرزها مطلب منح القطع الأرضية، الذي يُعاد طرحه في كل موسم انتخابي، وكأنه تعويض رمزي عن واقع اجتماعي مأزوم، أو مقابل لصمت المحامين.
إن استغلال هذا المطلب المشروع في سياقات انتخابية ضيقة لا يُعدّ فقط تبخيسًا لكرامة المحامي، بقدر ما يُمثّل تملّصًا واضحًا من مسؤولية الدولة في توفير حماية اجتماعية عادلة وشاملة لفئة تؤدي خدمة نبيلة، وتُشكّل صمام أمان للعدالة.
إن المطلوب من الهيئة، في هذا الصدد تجاوز منطق الوساطة للحصول على فتات، نحو نضال مؤسساتي ومهني حقيقي، يُعيد الاعتبار للمطالب الجوهرية، ويؤسس لمنظومة حماية شاملة تحفظ كرامة المهنة ومكانتها.
4- تحولات اقتصادية كبرى… ومهنة غير مستعدة

تشهد بلادنا تحولات اقتصادية غير مسبوقة تتطلب من مهنة المحاماة أن تكون في قلب المشهد القانوني، داعمةً ورافدةً حيوية لعملية التنمية والاستثمار.

فمع تدفق الاستثمارات العملاقة في قطاعات الغاز والنفط، وتوقيع عقود دولية مع شركاء أجانب، وظهور بيئة قانونية جديدة تتطلب تأهيلاً نوعيًا ومهارات متخصصة، يبدو أن مهنة المحاماة لا تزال غير جاهزة عن تحمّل هذا الدور الحيوي،

• فغياب التكوين المتخصص في مجالات قانونية حديثة ودقيقة،
• وعدم توفر كفاءات تفاوضية قادرة على التعامل مع العقود الدولية،
• وغياب المرجعيات الوطنية لتوجيه هذه العمليات القانونية،
كلها عوامل تجعل المحاماة اليوم عاجزة عن تقديم استشارات استراتيجية تلبي احتياجات المرحلة القادمة.

إذا لم تُسرع المهنة إلى إعادة تأهيل ذاتها، فسوف تظل هامشية في أخطر الملفات التي ترسم ملامح مستقبل بلادنا الاقتصادي، مما يهدد موقعها كمكون أساسي في منظومة العدالة والتنمية.

وفي ظل ضعف البنية المهنية الوطنية وعدم قدرة المهنة على مواكبة التحولات الاقتصادية والقانونية، نشهد تصاعدًا غير مسبوق لهيمنة المكاتب القانونية الدولية على أهم الملفات الوطنية، خصوصًا في قطاعات الغاز، النفط، والاستثمار الأجنبي، الأمر الذي يُضعف دور المحامي الوطني ويهدد استقلالية المهنة ويُقلّص فرصها في التواجد في قلب المشهد القانوني والاقتصادي.

إذا استمر الحال على هذا المنوال، فستفقد المهنة جزءًا مهمًا من أثرها المجتمعي والقانوني، وسيصبح دورها مقتصرًا على المهام التقليدية، مما يُنذر بتراجع خطير في مكانتها ومستقبلها. 

5- انعزال مقلق .. هيئة غائبة عن المشهد

لعلكم تدركون مكانة الهيئة الوطنية للمحامين كركيزة أساسية في البناء المؤسساتي للمهنة، وواجهة تمثيلية يفترض أن تُجسّد صوت المحامين أمام الدولة والمجتمع، كما تُعبّر عن مكانة المحاماة في الداخل والخارج.
غير أنّ الواقع الراهن يُبيّن تراجعًا واضحًا ومقلقًا في هذا الدور، يُترجمه انكفاء الهيئة عن المشهد الوطني، وعزلتها شبه التامة عن الفضاء الإقليمي والدولي.
فعلى الصعيد الداخلي، تسجَّل غيابات متكرّرة ومُلفتة للهيئة عن مواقع التأثير والتشاور، رغم جسامة التحديات التي تواجه المهنة:
• لا حضور فعلي ضمن المجالس العليا أو الهيئات الدستورية ذات الصلة.
• لا مشاركة منهجية في مناقشة المشاريع القانونية الكبرى.
• غياب الخطاب المهني عن الإعلام، والثقافة القانونية عن النقاش العمومي.
• ضعف في التواصل المؤسسي مع المحامين، وندرة المبادرات التفاعلية مع الرأي العام.
أما خارجيًا، فتزداد العزلة وطأةً:
• لا حضور فاعل في المنتديات المهنية الإقليمية والدولية.
• لا شراكات دولية أو آليات للتبادل والتكوين العابر للحدود.
• غياب يكاد يكون كليًا عن الاتحادات والمنظمات المعنية بالمهنة عالميًا.
هذا الانكفاء، في ظل تحولات اقتصادية وقانونية متسارعة، يُضعف مناعة المهنة، ويُفقد الهيئة دورها التاريخي كضامن للتوازن المهني، وفاعل مستقل داخل المنظومة الوطنية للعدالة.
فلا يمكن بناء تمثيلية حقيقية، أو تحقيق نجاعة تنظيمية، في ظل مؤسسات مهنية منكمشة على ذاتها، غائبة عن الشأن الوطني... ومعزولة عن محيطها الإقليمي والدولي.

آن أوان التحوّل… من التشخيص إلى الفعل

إن هذا التشخيص لا يدّعي الإحاطة ولا يحتكر الرؤية، وإنما يُمثّل خلاصة تجربة مهنية عميقة، كمساهمة أولى في مسار إصلاحي نريده صادقًا، شجاعًا، وجامعًا.
لم يعد التغيير الشامل والفاعل خيارًا ممكن التأجيل، إنه ضرورة وجودية لمهنة المحاماة، على الجميع أن يتحمّل مسؤولياته، وأن يعمل بروح الفريق الواحد من أجل إنعاش المهنة، واستعادة مكانتها ودورها في المجتمع.
لقد بلغنا لحظة الحقيقة: إما أن نعيد بناء الهيئة لتكون مؤسسة حيّة، عصرية، عادلة، فاعلة في بيئتها، حامية لأعضائها، ومدافعة عن القيم… وإما أن نواصل الانحدار نحو التهميش والتلاشي.
التغيير ليس ترفًا ولا شعارًا، ولا يتحقق عبر الولاءات أو الحسابات الضيقة، بل عبر المشروع، والعمل، والانفتاح، والتخطيط المتواصل.
فلننتقل من التذمّر الفردي إلى الفعل الجماعي، ومن التنازع إلى التعاون، ومن الانتظار إلى المبادرة.
من أجل جيل جديد من المحامين، ومن أجل وطن لا تُبنى عدالته ولا تتحقق تنميته إلا بمحامين أكفاء، أحرار، راسخي الموقف.
هل نرضى بالمتاح… أم نطمح للمستحق؟