من الرصيف إلى النقد: حين تقودني الكتب إلى الكتابة عن الرموز

اثنين, 28/07/2025 - 11:33

في أيام الدراسة في القنيطرة بالمملكة المغربية، تعرفت على بائع كتب مستعملة في نهاية الشارع المؤدي إلى المقهى، لم تكن تلك الكتب عادية أبدا، بل كانت مكتبة رجل مثقف، ربما باعها ورثته أو تخلصوا منها، لست متأكدا.
ما أنا متأكد منه أن تلك الكتب على الرصيف في نهاية الشارع المؤدي إلى المقهى قد عرفتني على عبد الوهاب المسيري، وعلى مالك بن نبي، وعلى رواية 1984 لجورج أورويل، وعلى كاتب فرنسي عاش في القرن السادس عشر (1530–1563)، قد ألّف كتابا يسمى "خطاب في العبودية المختارة"، وهو من أقدم النصوص الفلسفية التي تناقش مفهوم الاستبداد ورضا الشعوب به طوعا لا كرها.
من أقوال المسيري التي بقيت عالقة في ذهني قوله: "أخطر أنواع الزيف، هو الزيف الذي يتغلف بخطاب أخلاقي أو ثوري"، وهو قول مناسب جدا للرد على خطاب بعض المناضلين القدماء الذين يستكثرون على مثلي مجرد الحديث عن زعيمهم بحجة تاريخه النضالي ، فما أنا إلا مواطن موريتاني، له كامل الحق في كتاب رأيه بالشخصيات التي تتصدى للشأن العام في وطنه .
ولا زلت أذكر كذلك قول مالك بن نبي: "القابلية للاستعمار تبدأ حين يتخلى الشعب عن فاعليته، ويكتفي بالرمز بدل العمل" .
 وبهذا القول يمكنني الاستدلال على أن ترك الزعماء بلا مساءلة جزء من عقلية التخلف.
وفي مكان ما من رواية 1984 قرأت أن نجاحات الأمس لا تبرر أخطاء اليوم. 
أما في كتاب الفيلسوف الفرنسي، فقد تبلورت في ذهني فكرتان مفادهما أن أسوأ أنواع القمع ما يمارسه المناضل باسم الشرعية التاريخية، وأنه حين تصير الذاكرة التاريخية حجة لتبرير الأخطاء، نكون قد دخلنا زمن العبودية الطوعية.
وربما لم تكن تلك الكلمات مجرد تأملات فلسفية باردة، بل كانت –وما زالت– مرآة تعكس حال كثير من نخبنا السياسية، حين يتحوّل النضال إلى ذريعة للامتياز، والماضي إلى حصانة ضد النقد 
إن البعض يرى في انتقاد الوالد مسعود تطاولا لكن السياسة ليست علاقة أبوية، بل هي  تحالف بين مواقف ورؤية ، والذين شاركوا الرجل حلم التغيير –ثم وجدوا أنفسهم خارج الحسابات الحزبية والمناصب– لم يختلفوا معه في الأصل، بل في اختياره أن يكمل المسار داخل غرف مغلقة، بدل أن يبقى واقفا في الساحة التي بدأ منها.
لست ممن يسلب الرجل تاريخه، ولا ممن يُنكر عليه لحظة الزعامة،  لكنني ممن يرى أن لكل جيل حقه في التقييم، وأن المسكوت عنه أحيانا أكثر فصاحة من كل ما يقال.
والأهم: أن لحظة التحول من "المناضل" إلى "المسؤول" هي النقطة التي يتقاطع عندها كل شيء: الصدق والارتباك، الحلم والمصلحة، الشعار .
إن احترام النضال لا يعني تجاهل خيباته، كما أن الوفاء للتاريخ لا يعني تحنيطه.
ولعل أكبر ما يمكن أن يقدمه مناضل سابق لوطنه، هو أن يفسح المجال لغيره، أو أن يعيد تقييم تجربته بشجاعة.
هكذا تكتب الأمم مستقبلها: لا بالبكاء على أطلال الرموز، بل بطرح الأسئلة الصعبة عنها.
بقلم: بابه يعقوب أربيه
مهندس مياه وصرف صحي
واتساب: 38422201