
ليس كل رحيل مجرد أحزان تعتري الأسر أو اضطرابات تلمّ بدوائر ضيقة من الأصدقاء، بل منها ما يهزّ الذاكرة الحية للوطن، ويلجم الألسنة عن الكلام، ويستلهم التراث في عمقه الدفين.
في هذا الشهر الحزين من يونيو 2025م ، انحنت موريتانيا في صمت أحد أبنائها الأبرار الأفذاذ، هو أحمد ولد الشيخ ولد جدّو، ذلك المعلم الهادئ ، المنتصب بشموخ في فضاء الدبلوماسية المسؤولة ، رجل الدولة بوقاره الخفي، والمفكر النادر العمق، الذي كانت عظمته تكمن في ابتعاده عن الأضواء.
نعيش هذه الأيام تحت وطأة جرح داخلي – لا يُرى بالعين المجرّدة لكنه غائر – واهمٌ من يدعي أن الحياة يمكن أن تمضي بانسجام دون إيلام.
إن رحيل أحمد ولد الشيخ ولد جدّو ليس مجرد فاجعة قاسية تنبهنا بأننا ما زلنا نتنفس بل هو ناقوس خطرٍ ينذر بنهاية حقبة معينة وسقوط مَعلَم راسخ ظلّ شموخهُ الصامت ينير دربنا المظلم. ليس هذا موت رجل بقدر ما هو خمودٌ لجذوة إنسانية طافحة وغياب نخوة عالية و انحسارُ حضور لافت لم يعد عصرنا الضنينُ بالعظماء ، قادرًا على إيجاد أمثاله.
كانت هناك حقبة كان رجال الدولة فيها يقِفون بشموخ. أما أحمد، فقد تصدر محور العالم بعفوية رجل الصحراء. لا أعرف إن كان من اللائق كتابة تأبين لمثل هذا الرجل، أم أن الأجدر أن نعبر عن ما يعتلج في صدورنا بصمت مُطبَق . لكن عيب الدار على مَن بقي فيها وهو موقع يفرض علينا أضعف الإيمان ألا هو أدب الشهادة، حتى ولو كان ذلك لمجرد تأجيل الانهيار إلى حين .
لم يكن الفقيد من أولئك الرجال الذين يستهويهم ضجيج الإعلام أو تغريهم المظاهر. كان ينتمي إلى سلالة جيل المؤسسين لصرح الجمهورية الذين يلوذون دائما بالصمت فلا يُقرأ أثرهم في البيانات ولا في التمثيل، بل يقبعون بشموخ في الذاكرة الحية للمؤسسات والرجال.
لم تفقد موريتانيا رجل دولة فحسب، بل فقدت نمطًا من أنماط الدولة. فقدت أسلوبًا في كلام العالم دون رفع الصوت، وفي فرض الذات في المحافل الدولية السامية دون تلعثم وفي شق الممرات الدبلوماسية الوعِرة بأناقة العارفين بأن الفعالية تنبع من روح الكتمان، وأن العظمة تكمن في الزهد ونكران الذات ، وأن السيادة الحقيقية لا تُعلن: بل هي همس خافت واستلهام واعٍ وميراث أصيل.
بثقافته العربية الإسلامية الواسعة، ومعرفته العميقة بالحضارات الأفريقية، وصداقاته الشخصية مع أعلام مثل ليبولد سيدار سنغور وفيلكس هوفويت-بوانيي، كان الفقيد جسرًا موصولًا بين العالميْن العربي والأفريقي. كان دبلوماسيًا بالمعنى الأصيل للكلمة: قنطرة بين التخيلات، وسيطًا خفيًا بين أنانيات الأمم، وشاهدًا فاعلاً على تشكُّل العالم ما بعد الحقبة الاستعمارية.
في بداياته، كان من القلائل الذين وصلوا إلى قمة الوظائف الإدارية في الدولة الناشئة : أمينًا عامًا للحكومة، ووزارة الخارجية، والبرلمان، ثم سفيرًا في تونس، وأول سفير معتمد لدى المملكة المغربية في عهد الحسن الثاني. هذه الألقاب ليست سوى واجهة عمله الاداري والدبلوماسي فالرجل، كان بعيدًا كل البعد من أن يمّحي في بوتقة مناصبه، بل طوّح عنها عاليا في فضاءات النبل والأريحية.
كان أحمد ولد الشيخ ولد جدّو بمثابة الذاكرة الدبلوماسية للوطن ، لم يكن رجل مناسبات عابرة ، بل كان رجلا مؤسسًا فعلا ، لم يدخل التاريخ، بل سكن التاريخ .
من عرفه عن قرب يعلم أنه كان يشع بكل ملامح الجمال: دقة الفقيه العالم، ورهافة حسّ الأديب، وصدق المؤمن الحكيم، وتواضع الخادم المخلص للوطن.
كنت محظوظًا بأن جمعتني وإياهُ صداقة حميمة لمدة خمسة وخمسين (55) عامًا. في الثلاثين (30) سنة الأخيرة منها ، كنا نلتقي بانتظام بالتناوب بين نواكشوط وبوتلميتْ ، في جلسات طويلة هادفة ، وحوارات نادرة العمق. كان حديثنا متكافئا ، لكنه كان دائمًا كلامًا في الصميم. كان يعرف كل شيء، لكنه لم يكن يتبجح بعلمه. كان يعلم أن الثقافة الحقيقية لا تُكتسب بالتعلّم لكن بحسن الإصغاء.
كانت تربطه بالرئيس المؤسس المختار ولد داداه، علاقة نادرة – من النوع الذي لا ينحصر في حدود الزمن، بل يُكتبُ بحروف من ذهب في سجل المخطوطات الدفينة حيث تدوِّنُ الشعوب أواصرها الحقيقية.
ما جمعهما كان ائتلاف الأرواح المفعمة بروح الواجب الوطني ، ذلك الاتفاق الصامت القديم بين اثنين من بناة جمهورية لم تولد بعد، بين رجلين من الأعماق ، يجمعهما الكتمان والفكرة المرفوعة إلى أعلى درجات المطلب الأخلاقي.
عندما غادر المختار الشاب عين السلامة إلى حاضرة بو تلميت، كان ضيفًا لدى أحفاد الشيخ ولد جدّو حيث أودع أول أحلامه بالمدرسة والوطن. لم يكن محاطا بمجرد كرم ضيافة، بل تشرب موروثا طيّبا من القيم ومصيرا مشتركا من الطموح والأمل . تلك الرمال التي وطئها بقدميه يومئذ كانت قد تروّتْ بلُطف أهله، من تلك الأرومة التي فهمَت باكرًا أن التعليم هو عصارة الأمم. في كتابه "موريتانيا رهان التحديات الكبرى"، يذكر المختار، رجل الدولة بقوله الهادئ، تلك اللحظة التأسيسية: في تلك التفصيلة الصغيرة، في تلك الذكرى الحية، يلمح بالفعل إطار الولاء الأبدي.
في تلك السنوات حيث كان الفكر يأخذ وقته لينضج، كنّا هناك، بثلاثة أصوات، في بعض أمسيات عين السلامة الهادئة، وغالبًا في سهرات طويلة بنواكشوط. كان هناك أحمد، حامل علم كثيف وهادئ وكان هناك محمد ولد مولود ولد داداه، العالم، المفسر الأبرز للحضارات القديمة والناشئة وكنت أنا، العطشان للمعرفة، الباحث النهمَ المسكون بحب الاطلاع .
لم تكن لقاءاتنا مجرد أحاديث: بل كانت محاولات لفك لغز الواقع، تمارين في وضوح جماعي حيث كنا نستشرف تقلبات العالم لاستخلاص مسارات ممكنة، ومخططات لرحلات شعوبنا في غيابات المجهول.
كنا نلتقي أيضًا غالبًا عند صديق مشترك هو محمد سيديا ولد اباه، رجل الصرامة الفكرية والأخلاقية الفذّة، الذي كان عمق أفكاره يحوّل كل لقاء إلى لحظة ارتقاء.
قبل رحيله بثمانية أيام، طلب ابني – الشاب المولع بالتاريخ – أن يقابله. دون ملاحظات، دون تحضير، بتلك الأناقة المعهودة التي تميزه، بدأ أحمد سردًا طويلًا، دقيقًا، صارمًا، حيًا، وكأنما كان يريد، للمرة الأخيرة، أن يمرر حرقة تتمنع إذ يجب أن لا تنطفئ.
فأحمد ولد الشيخ ولد جدّو لم ينتمِ إلى حقبة، بل انتمى إلى تقليد. تقليد علماء بلاد شنقيط الكبار، تقليد رجال الإيمان والواجب والهيبة.
لقد ترك رحيله في قلبي – تماما كما في قلوب أهله – فراغًا لا يملؤه إلا الدعاء والاعتبار.
فإلى أسراته الكريمة، وإلى الأمة الموريتانية التي سيظل أحد أبنائها الأبرار الأفذاذ، نضم أحزاننا إلى أحزانهم ولا نقول إلا ما يرضي الرب : إنا لله وإنا إليه راجعون.
محمد عالي شريف
نواكشوط، بتاريخ 21 يونيو 2025م