من لم يعتصم بسبب من الحق ويستمسك بعروة من العمل الصالح، ضل وانبهمت عليه السبل، والتبس عليه الحق والباطل، والهدى والضلال، ومن لم يجعل له قدوة من سير العظماء تردد وتحير، والزمان لا ينتظر المترددين الحيارى، أو ضل وهلك، والدهر لا يشفق على الضلال والهلكى.
وإن لنا من سيرة رسولنا خاتم النبيئين والمرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم نبراسا يضيء المعالم، ومنهاجا يقود إلى الحق، وهديا يبلغنا الصراط المستقيم، وقيما تأخذ بنا إلى بر الأمان والخير والصلاح.
وإن صلتنا وعلاقتنا بسيرة وهدي الرسول الكريم عليه السلام ليست صلة آنية، تثار في مناسبة خاصة، أو فترة محدودة ومعروفة، بل ينبغي أن تكون قائمة في كل وقت، متجذرة في نفوسنا، وجلية في أقوالنا، وحاضرة في أفعالنا وأعمالنا، واضحة في سلوكنا، وكل ما يتعلق بحياتنا، وفي كل صغيرة وكبيرة من أعمال الفرد والجماعة:
نسير على خطاه، ونقتفي هديه وسيرته في بيته ومسجده، وفي سياسة الجماعات، وتربية الأمم، وقيادة الجيوش، وفي الإصلاح بين المتعادين، والقضاء بين المتخاصمين، وفي السفر والحضر، والشدة والرخاء، والحرب والسلم، والغضب والرضا، فما تلقانا حادثة من حوادث الزمان، أو عمل من أعمال الحياة خيرها وشرها، وحلوها ومرها، إلا وجدنا في سيرة سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد صلوات الله وسلامه عليه مثلاً عالياً، وأسوة حسنة، ورأياً هادياً، وقضاء فصلاً، يهدينا إلى ما فيه صلاح الدنيا والآخرة.
كل فرد منا يجد في سيرته صلى الله عليه وسلم وهديه شفاء لدائه، والتحرر من أهوائه، وإصلاح خلقه، والجهاد في الحياة والصبر على لأوائها، والطموح إلى معاليها، والاستكبار عن دناياها، والإباء على كل ضيم والنفور من كل مذلة.
ألف عليه الصلاة والسلام بين الإنسان والإنسان على شريعة من المودة والأخوة، وألف بين الأمة والأمة على منهاج من الحق والبر والعمل الصالح لخير الناس أجمعين.
هو من رفع للناس لواء الأخوة لا يفرق بين الأبيض والأسود، ولا يميز بين المشرق والمغرب: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
هو من دعا الناس جميعاً إلى التنافس في الخير على اختلاف أديانهم ونحلهم وأُنزل الله تعالى عليه: (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كل شيء قدير)، (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعلمون).
هذه ذكرى نبيكم صلى الله عليه وسلم، وميلاد تاريخكم، ومبدأ مجدكم، ومنشأ سعادتكم؛ فإن شئتم لأنفسكم السيادة والسعادة فكونوا أهلاً لهذا الشرف. كونوا بأخلاقكم وأعمالكم جديرين بأن تسموا أمة محمد عليه السلام، فمن شاء أن ينتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهذه سنته، ومن شاء مجده فهذه طريقته:
(يا أيها النبيء إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا)،
علينا أن نحب النبي -صلى الله عليه وسلم- حباً صادقا، وحبه ليس مجرد عاطفة تثور ثم تغور، ولكن حبه عقيدة راسخة في النفس، تدفع إلى التضحية في سبيل المبادئ التي جاء بها من أجل إنقاذ النفس وإنقاذ الغير، فإن ذلك من مقتضى الإيمان بالله ومن مقتضى الإيمان برسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول القاضي عياض رحمه الله تعالى: ((فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها الاقتداء به واستعمال سنته وإتباع أقواله وأفعاله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والتأدب بآدابه في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه))، وشاهد هذا قوله تعالى: (قل إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ):
هو نعمة لله من قبائلٍ … ما كان أحوَجها إلى النَّعماء
فَضْل تمثلَ في ظهور (محمدٍ) … والله جمُّ الفضل والآلاء
هذا الصباح على الجزيرِة مشرقٌ … في كل رُكْنٍ منه لمْحُ رَجَاء
قد آذن الليلُ البهيمُ بجًلْوَةٍ … وانشقَّ عن صُبْحٍ بَغْيِر خَفَاء
نُورٌ أضاَء الحقُّ في جَنباته … مُتألق النَّسَمات والأنْداء
تَنْجابُ عن مَسْراه كل دُجُنَّةٍ … ويغيبُ من مرآهُ كلُّ مَسَاء
تلك الأشعةُ من خِلالِ وميضه … فيها لمرضَى النَّفِس كلُّ شِفَاء
بُشراكمُ مَرْضَى القلوبِ، فإنما … جَاَء الطبيبُ لكُم بخْيِر دَوَاء
هذا نبي الله أشْرَقَ بينكم … وأتى لكُم بالوحي والإيحاء
الله يُلهمهُ بكل كريمة … ويُمدُّه بالنَّصر والنُّصراء
هذا المبَّرأ من عيوب زمانهِ … والخالصُ الخالِي مِنَ الأقذاء
لم يَمشِ في الجهلِ القديم ولم يكنْ … من يَومه في زُمرة الجهلاء
الله صفَّاهُ لنُصرةِ دينه … واختارهُ لتحمل الأعباء
حَمَل الأذاةَ فكان أقوى عُدةً … وأشدَّ مُصطَبرًا على الإيذاء
هذا الوفي لربهِ ولدينِه … هل يَنْجَحُ المسعَى بغير وفاء؟
يا مَن تَغُرُّهُمُ الحياةُ رخيصة … الله في أخذٍ وفي إعطاء
هذا الفقيرُ أتى يقودُ جماعةً … استعصتْ منهُ بخيرِ لِواء
قُلْ للمُدِل بجاهِه وبمالهِ … المالُ ليس مُكوّن العُظماء
هذا رسولُ الله لم يَعقُد به … عن مجِده أن كان في الفُقراء.
وكتب إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي