المفتي ولد الشيخ سيديا يكتب.. ريّان...عِبَرٌ وعَبَرات ٌ

اثنين, 07/02/2022 - 10:00

 

كان سقوط ريانَ فى بئر عميقة، وهو ابن خمسةِ أعوام، ومكثُه فيها خمسةَ أيام، حدَثا طبّق العالم بأسره، وملأ الدنيا حزنا وألما.

تابعْتُ عبر شاشة الهاتف النقال الحدَث باهتمام بالغ، وبقلب واجف ملؤه الترقب والرجاء.

كنت أدعو له أحيانا فى السجود، وربما ذرَفت عيناى غَلبةً كلما فكرت فى أمه التى أطاحت بها طوائح البثّ والكمَد.

لقد أصبح فؤاد أم ريان فارغا، وكيف لا وهى ترى فِلذة كبدها فى قعرِ بئر مُظلمةٍ ذات غوْر سحيق؟

افتُقد ريان من البيت، فكان ذلك الفصلَ الأول من مأساة سيتابعها العالم أجمعُ.

طُلِب فى كل مكان غير أن وجوده فى بئر والده لم يكن ليخطرَ على بال.

لم يدلّ القومَ على ريان إلا صراخُه باكيا مستنجدا.

تتبعوا الصوت فإذا هو يصدر من أعماق البئر، فغمر الأبوين فرحٌ عظيم ممزوج بألم عميق.

انتشر الخبر فى القرية والضواحى، ثم ما لبث أن عمّ أرجاء المعمورة، فهُرع المغاربة إلى البئر، وأصْدِرت الأوامر لرجال الطوارئ والإنقاذ، فأحضروا من الآلات والمُعَدّات ما يكفُل انتشالَ الطفل من غيابات الجُبّ.

لكن كان ضيق البئر، وطبيعةُ تربتها، واعتراضُ الصخور سبيلَ الحفر، عقباتٍ جسيمةً تحول دون الوصول إلى الصبىّ فى وقت مبكر.

كان هؤلاء العمالقة رجالا بما تعنيه الكلمة من معنى.

وكان ما أنجزوه أقرب إلى الأسطورة والخيال. لم يدخروا جهدا، واصلوا عملهم بالليل والنهار.

حفروا غيرَ بعيد بئرا موازية، ليصلوا إلى الصبىّ عبر نفق حفروه بآلاتهم تارة، وبأيديهم أخرى.

وفّرت الدولة أيضا متطلباتٍ أخرى، أُحضِر الأطباء والممرضون بأدويتهم وأجهزتهم، وأعِدّت للإسعاف طائرةٌ وسيارات، وأشرفت على العملية سلطات الإقليم.

تجمع الناس فى جنبات الموقع يدعون ويترقبون، وبدأ العالم يحبس أنفاسه، ويتابع أعمال الحفر بلهفة بالغة، وينتظر إخراج الصبىّ لحظةً فلحظة.

كنت من أولئك الذين شاطروا أهل ريانَ ترَحَ المأساة منذ أن تردّى فى الهُوّة، وتضاعفَت المشاطرة حين بدأَت أعمالُ الحفر، وراودنى الأمل فى أن يُرَدَّ إلى أمّه كىْ تقَـرَّ عينُها ولا تحزَن.

وكنت أشفق على الحَفَرَة من انهيار البئر من فوقِهم إشفاقى على ريان. كان عملهم شريفا نظيفا، لكنه كان مجازفةً ما منها بُدٌّ، ولا عنها مَحِيص. كان الهول حينَها عظيما حقا، والمشهد مَخُوفا جدّا.

لما أخْرِج ريان بعد جهد جهيد، وخطر أكيد اهتزّت الدنيا فرحا وجذلا، وامتزج التصفيق بالحمد والتكبير، وسجد شاكرون، وفاضت عيون بدموع الحبْرة والسرور، وطفق مراسلون ومحللون وأطباءُ يشرحون، ويتكهنون، ويَسألون ويُسألون.

لكن كان عُمُر تلك الفرحة قصيرا، فما مرت لحظات إلا ونبأ الفاجعة يقرع القلوب قبل المسامع، فكانت القاضية.

هنالك امتزجت دموع الفرح بدموع الترَح، وغصت الحناجر شجوا، وأصيب العالم بالصدمة والذهول، وخيّم عليه صمت رهيب.

لقد مات ريان فى البئر، ولم يغادرها حيا. وزلزلت أمه زلزالا شديدا يفوق الوصف. نعم كانت تلك لحظةَ المأساة الحاسمةَ التى لم تكن فى الحسبان. لم يكن أحد من الحاضرين يعلم قبل تلك اللحظات شيئا عن ريانَ موتِه أو حياته، صحتِه أو مرضِه، وهو منهم قريب جدا.

وهل يعلم أحد غيبَ السماء والأرض إلا الله؟ (قل لا يعلم من فى السماوات والأرض الغيب إلا الله). وما كان أبو ريان يتوقع يوما أن يموت صغيره فى بئره التى حفر بيديه. فهل يدرى أحد أين يكون مضجعه من الأرض؟

(وما تدرى نفس بأىّ أرض تموت). فكيف تعرف أين يموت الآخرون؟ فى أيام الحفر الحالكة أدرك المغاربة والمتابعون فى كل شبر من الأرض أن قوى البشر ضئيلة، وأن الأمر كله لله.

فلا تسمع استغاثة بغير الله، أو تضرعا إلى مخلوق كائنا من كان.

فقد ضل فى تلك الأوقات عمن كانوا يدعون غيرَ الله كلُّ مدعوٍّ آخرَ سواه. فلا تسمع دعاءَ ميّت ولا غائب.

لقد كان الدعاء يومئذ خالصا للحىّ الذى لا يموت، وكان النطق بالشهادتين والتهليلِ والتكبيرِ يملأ أرجاء ضاحية شفشاون، ويدوّى عبر الأثير فى كل مكان.

نعم. لقد أظهرت تلك الساعاتُ الطوالُ عجْزَ البشر وضعفَهم أمام القدَر، واستسلامَهم فى أوقات المِحَن والشدائد لله وحده مخلصين له الدين، وأنهم لا يعلمون الغيب، وأن الآجال بيد الله وحده، وأن الموت يطوى حياة الصغار كما يُنهى أمَدَ الكبار، وأن الوسائل مهما كثرت وتنوعت لا تغنى شيئا إذا كان القضاء قد أبرم من فوق سبع سماوات. لقد أيقظت هذه الحادثة جذوةَ إيمان فى قلوب بقيت فيها صُبابةٌ من فطرة لم تُرِقْها الحضارة الزائفة، وبقيةٌ من عطف وحنان ظلت كامنة فى الأغوار.

إن الأهمّ ألا يركَن من وحّد الله فى النقمة إلى الشرك به عند حلول النعمة. *** عزائى ودعواتى الصادقة لأبوَىْ ريان ولآل ريان، ولأهالى شفشاون وسائر المغاربة والعرب، ولعموم المسلمين فى المشارق والمغارب.

فليس للمسلم إلا أن يرضى بقضاء الله وقدره، ويصبر احتسابا للأجر والذخر، ويعلمَ أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن لله سبحانه وتعلى الحكمةَ البالغة فى كل ما يقضيه.

(وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).

وإنا لله وإنا إليه راجعون.