بدأ نضال الموريتانيين من أجل الحرية في خمسينيات القرن الماضي برفض الاستعمار، ثم برفض الاستقلال الشكلي والتمسك بالهوية، وتطور في الستينات ليصبح نضالا من أجل الاستقلال الاقتصادي، فجاء تأميم ميفارما وإنشاء الأوقية.
في السبعينات أصبح هذا الكفاح نضالا من أجل محاربة العبودية والفوارق الاجتماعية، ليتطور في الثمانينات ليكون كفاحا من أجل الديمقراطية، تجسد في دستور 91 رغم ما سبقه من هزات عنيفة.
في التسعينات بدأ الكفاح من أجل حرية الصحافة، وصراع مرير مع المادة 11 سيئة الصيت، ومع مطلع الألفية ألغيت هذه المادة، وبدأ نضال جديد لتكريس الحريات في الدستور وتعزيز العملية الديمقراطية والتطبيع مع الحرية، وتجريم العبودية وتعزيز المساواة بين المواطنين.
تحققت مكاسب كثيرة، وبقي الكثير من النواقص التي من أهمها خلق «وعي وطني».
اليوم ندخل مرحلة جديدة من النضال في سبيل الحرية !
لا أعتقدُ أن التخلي عن المكاسب السابقة سيكون سهلا، حتى وإن كانت الحاجة ماسة إلى حماية أعراض الناس وشرفهم، والحفاظ على لحمة المجتمع وأمنه، من خلال ضبط وتقنين فضاء مواقع التواصل الاجتماعي ومنصاته، ولكن هذه الأمور الضرورية لا يجب أن تكون مطية لمصادرة آراء الناس وسلب الإعلام حريته.
أكد الرئيس والمسؤولون والموالون أنه لن يتم المساس بحرية الإعلام والصحافة ولا بحرية التعبير، هذا «كلام جميل» ولكنه مجرد كلام، وما عرض على البرلمان قانون سيبقى ساري المفعول بعد إقالة الوزير الأول وخروج الرئيس من القصر، إنه «قانون» ولا يمكن تلطيفه بعبارات تخرجُ من أفواه الساسة.
إن القلق الأكبر هو الثغرات الكبيرة داخل الإدارة الموريتانية، ومزاجية الموظفين والمسؤولين ورجال الأمن، وبالتالي سرعتهم نحو استغلال القانون من أجل التغطية والتعتيم على الفساد والرشوة وقمع الناس.
يقدم مشروع القانون الجديد أربع تهم كبيرة هي «المساسُ بهيبة الدولة ورموزها» و«المساس بالأمن الوطني» و«المساس بالسلم الأهلي وباللحمة الاجتماعية» وأخيرا «المساس المتعمد بالحياة الشخصية»، وهي تهمٌ خطيرة، يجب أن تكون محل إجماع خارج البرلمان.
رغم أن مشروع القانون يدخل في دائرة القوانين الردعية إلا أن العقوبات كانت غير متماشية مع التهم، فهو مثلا يقترح عقوبة بالسجن من 2 إلى 4 سنوات في حق المدان بتهمة «المساس بهيبة الدولة ورموزها»، والسجن من 1 إلى 3 سنوات في حق المدان بتهمة «المساس بالأمن الوطني» !!
رغم تحفظي على تعريف «المساس بالأمن الوطني» في مشروع القانون، إلا أنني أعتقدُ أن «الأمن» أولى من «هيبة الرموز» !
أما ما يتعلق بمنع تصوير رجال الأمن أثناء أداء مهامهم، ففيه تضييق ضمني على الصحفيين الراغبين في تغطية المظاهرات، لأنه ما من مظاهرة إلا ويحضر رجال أمن إما لتفريقها أو حمايتها، هذا عدا عن رغبة واضحة في اغتيال دور الرقابة الذي بدأ يلعبه المواطن خلال السنوات الأخيرة، حين يصور وينشر مسلكيات ضارة في الشارع، سواء كانت لدى مواطنين آخرين أو موظفين أو رجال أمن.
هذا القانون إذا تمت المصادقة عليه، دون أي تعديل أو مراجعة، فسيبقى مثل التعديلات الدستورية الأخيرة، التي طمست العلم الذي نحترمه واستبدلته بعلم لا نُجمع عليه، ليمثل بالنسبة لبعض الموريتانيين لحظة الشرخ والهشاشة والغلبة بالقوة التي عشناها عام 2017، أما النشيد الجديد فلا يمثل الوطن.. إنه لحن جميل وشعر باهت أتعامل معه كأي أغنية أخرى.. وما زلتُ عاجزا عن الوقوف له.
إن البرلمان الذي أقنعنا باستقلاليته كسلطة تشريعية خلال التحقيق في ملفات العشرية العام الماضي، عليه أن يقنعنا اليوم بهذه الاستقلالية فيرفض مشروع القانون، ويعيده للحكومة من أجل إعادة صياغته كما سبق وفعل مع قوانين أخرى (قانون النوع مثلا).
أما إذا اعتمده وصادق عليه، فلن يقنع أحدا بعد ذلك باستقلاليته، وإنما سيكرس النظرة السائدة حول تبعيته العمياء للسلطة التنفيذية.. فهل يفعلها ؟
وفي الأخير، أحتفظ برأيي حول ضرورة ضبط الفوضى والعدوانية التي تجتاح وسائل التواصل الاجتماعي، ومحاربة خطاب الكراهية المنتشر، ولكن دون المساس بقيم الحرية الواعية والمسؤولة.
الشيخ محمد حرمة