تشهد بلادنا منذ سنوات عديدة تنامي الجريمة وتنوعها بصورة مهولة تستدعي وضع وتبني مقاربة شاملة تراعي كافة أسباب الجريمة وتضع الحلول الجذرية لاستئصالها دون التركيز على المقاربة الأمنية لوحدها والتي ينحصر دورها غالبا في استباق وقوع الجريمة وتوقيف المجرمين. ذلك أن هناك جوانب عديدة تظل ضرورية وجوهرية في المقاربة الشاملة لاستئصال الجريمة مثل الرفع من المستوى الاقتصادي والمعيشي للمجتمع وخاصة طبقاته الهشة، وذلك من خلال رصد مبالغ مالية معتبرة لإنجاز مشاريع اقتصادية وتنموية مدرة للدخل لفائدة الشباب والأسر الفقيرة، فضلا عن وضع المجتمع في ظروف معيشية مقبولة من حيث السكن والدخل وتوفير الخدمات الأساسية إلى جانب تقريب مختلف الخدمات من جميع المواطنين وفي مقدمتها النهوض بقطاع التعليم.
التعليم أولا
وبدون شك فإن الجانب التربوي يبقى حجر الزاوية في كافة المقاربات التنموية، إذ كلما تدنى مستوى التعليم تدنت الأخلاق وانهارت القيم، وهو ما يجعل من مراجعة المناهج التربوية المعتمدة وتدريسها باللغة الأم لكافة أبناء الشعب الموريتاني المسلم، دون إغفال لغات العصر كالإنكليزية والفرنسية وغيرها، ضرورة ملحة ستمكن أكثر من 80% من التلاميذ والطلاب من المواكبة والاستيعاب، فضلا عن ضرورة وضع الطواقم التربوية في ظروف متميزة تشجع الأستاذ والمعلم والمربي على حسن الأداء في تربية عقول جيل الغد، لأن الظروف المعيشية الصعبة للطواقم التربوية تشتت الأذهان وتحول دون التركيز بالكامل على أداء مهامهم النبيلة على الوجه المطلوب، لذلك لا بد من إقرار زيادة معتبرة في رواتب الطواقم التربوية ووضعهم في ظروف مناسبة ومشجعة على الأداء والتميز، فضلا عن تأهيل المؤسسات التربوية ليكون الطالب والتلميذ والمربي في مناخ وبيئة محترمين من حيث الشكل والمضمون.
وفي هذا الصدد فإن ترميم مئات المؤسسات التعليمية وتأهيلها يصبح ضرورة ملحة لتمكين الطاقم التربوي من المواكبة والرقابة والضبط وليستشعر الجميع حرمة المؤسسة التربوية ومكانتها الرفيعة لدى الجميع.
الظروف المعيشية
وبالعودة إلى تحسين الظروف المعيشية للأسر الهشة، فإنه من الحتمي تحسين الظروف المعيشية لجميع فئات الشعب وتشغيل الشباب وملء فراغه بالنشاطات الكشفية والرياضية والثقافية من خلال الأندية والمسارح والنشاطات الثقافية والرياضية والترفيهية المثمرة.
ويعتبر الجانب الاقتصادي محورا أساسيا في كل مقاربة من شأنها ترتيب البيت الداخلي وإرساء أسس قوية لإقلاع اقتصادي وتنموي سليم، ويتم ذلك من خلال خلق آلاف فرض العمل سنويا لفائدة الشباب الأكثر عرضة للتسرب والتسيب، وللأسر الفقيرة التي تصبح عرضة لتكون ملاذا للمجرمين "الجدد" بسبب الفقر والجهل والمعاناة
لذلك فإن إطلاق مشاريع اقتصادية مدرة للدخل على عموم التراب الوطني لفائدة الشباب والأسر الأكثر هشاشة من شأنها ملء الفراغ وخلق فرص عمل ووجود دخل ثابت يحول دون اللجوء لعمليات السرقة والسطو والحرابة وأنواع الجريمة المختلفة.
وهكذا يظل تشغيل الشباب ودمج وتكوين الفئة الشبابية أمرا ضروريا لتجنب ضياع أجيال المستقبل وانحرافها، خاصة حين يلج الشباب سوق العمل بشرف وكرامة حيث يصبح عضوا فاعلا في المجتمع ومساهما بشكل إيجابي في التنمية الشاملة.
وفي المجال الاقتصادي دائما يجب أن يتم تذويب الفوارق بين الطبقات العاملة، عمومية وخصوصية، عبر إقرار زيادات منصفة في رواتب الفئات العمالية الأقل دخلا وهو ما سيسهم لا محالة في تحسين المناخ الاقتصادي والاجتماعي ورفع معنويات مختلف فئات المجتمع وإزالة الحساسيات المفرطة التي يثيرها التمايز والفوارق الاقتصادية والاجتماعية
الفوارق الاجتماعية والتمييز الإيجابي
وفي إطار وضع تصور لمقاربة شاملة لاستئصال الجريمة بمختلف أنواعها فإنه من الضروري اعتماد سياسة رسمية للتمييز الايجابي لفائدة الفئات الاجتماعية التي عانت التهميش والغبن لأسباب خارجة عن إرادة الحكومات والمجتمع وتعد من ترسبات النظام الطبقي القديم الذي مرت به كل الشعوب والمجتمعات، ويتم ذلك في مجالات التعيين والتعليم والامتيازات المختلفة.
ومن المفيد في هذا الصدد منح عناية خاصة للتجمعات السكنية الخاصة بتلك الفئات وإعادة تخطيط المدن لدمج تلك الفئات ومنحها مساكن لائقة بين بقية مكونات المجتمع ضمن خطة عمرانية شاملة لتوفير السكن اللائق لجميع الأسر الموريتانية التي لا تملك مساكن في وطنها، ويمكن أن يتم ذلك عبر إعادة إحياء مشاريع المدن والأحياء السكنية الخاصة بكل فئة من العمال الموريتانيين وللفئات الهشة التي سيتاح لها، ضمن هذه المقاربة، تملك وتسيير مشاريع مدرة للدخل في مدنها وأماكن إقامتها تتوفر على كافة الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وأسواق وأمن وإدارة ودور للشباب والترفيه وغيرها.
كما أنه من الضروري تشجيع زواج الشباب وتسهيل إجراءات الزواج وتنظيم حفلات الزواج الجماعي على نفقة الدولة مع التكفل بتوفير مساكن مناسبة للأسر الشابة ومصادر دخل مشرفة تحول دون انحراف هؤلاء وولوجهم عالم الانحراف والجريمة والسجون.
الشباب والمخدرات والسجون
ولا شك أن الجريمة تتفشى بفعل تنامي الفقر الذي يحول دون تحقيق تطلعات الشباب في الولوج إلى الحياة الكريمة إلى جانب الأمية والجهل وعوامل التأثر بالانفتاح على التقنيات الجديدة ووسائل التواصل الاجتماعي التي تحمل في طياتها إيجابيات وسلبيات لا حصر لها، فضلا عن الاحتكاك المباشر بالأجانب الذين يدخلون البلاد من مختلف المنافذ لأسباب مختلفة بما في ذلك بعض "تجار الخضروات" الذين يحملون معهم من حين لآخر كميات معتبرة من أنواع المخدرات والمؤثرات العقلية بغرض تسويقها في أوساط الشباب الذي يعاني الفراغ القاتل والفقر المدقع والجهل المركب. هذه العوامل هي التي تؤدي بالشباب المحروم إلى البحث عن ساعات من "الخلاص" بتدخين واستنشاق تلك السموم التي تذهب بهم في عوالم تنسيهم، ولو مؤقتا، مرارة الحرمان والمعاناة فيرتكبون، دون وعي غالبا، جرائم القتل والاغتصاب والسطو، ليس لأنها هواية لديهم بل لأن ظروفهم المعيشية وفقرهم يحولان دون تحقيق تطلعاتهم في الحصول على دخل يحصنهم من السطو والسرقة، وزواج يحصنهم من الاغتصاب، وترفيه وثقافة وتعليم تحصنهم من الانحراف فيصبحون من رواد السجون ومن عتاة المجرمين.
لذلك فإنه لا بد من ملء هذا الفراغ القاتل بما يفيد ولا بد من توفير مصادر دخل ثابتة عبر التكوين المهني وإنجاز مشاريع اقتصادية مدرة للدخل لفائدة الشباب وإعادة تأهيل السجناء وتوفير ظروف مناسبة لتلقي المعارف والتكوين طيلة محكومياتهم في مختلف السجون مع تلقيهم حصصا يومية من القرآن الكريم والفقه والتعليم الموجه والترفيه والمسرح الهادف، وفور انتهاء تلك المحكوميات يكون هؤلاء السجناء قد خرجوا مؤهلين للعمل والمساهمة في التنمية عبر الولوج إلى سوق العمل من خلال الحرف والمهن التي تعلموها في السجون، ذلك أن واقع السجون اليوم يحول السارق العادي إلى مجرم متمرس بحكم احتكاكه بعتاة المجرمين الذين لم يتلقوا أي تعليم أو تكوين أو إعادة تأهيل نفسي أو عقلي يحولهم إلى بشر صالحين للمجتمع فينقلون إليه تجاربهم مع الجريمة ويغرونه بمغامراتهم ويحرضونه على المجتمع وعلى الاستقامة، لذلك لا بد من إحداث تغيير جذري في مؤسسات السجون لتصبح إصلاحيات حقيقية تخرّج مواطنين صالحين قابلين للدمج في الحياة النشطة والإسهام الإيجابي في التنمية والبناء.
وفي إطار محاربة انحراف الشباب، أصبحت المدارس، منذ سنوات، ملاذا ملائما للمنحرفين وخاصة مروجي ومستهلكي المخدرات، ومروجي الفاحشة، وهو ما حول الكثير من شبابنا في عمر الزهور إلى مدمنين، وبالتالي فلا بد من معالجة الأزمة من جذورها وتحصين الشباب وحمايته وتعليمه وملء فراغاته بالأنشطة الثقافية والرياضية والترفيهية، فضلا عن إنشاء مركز متخصص للمدمنين بغية معالجة مختلف ضحايا السموم البيضاء والمؤثرات العقلية.
وللحد من انحراف المتسربين من المدارس، بسبب عدم قدرتهم على استيعاب التعليم، فإنه لا بد من تشجيعهم على ولوج معاهد ومدارس التكوين المهني بغية اكتساب مهارات وخبرات في مجالات مختلفة كالكهرباء والنجارة والبناء وميكانيكا السيارات وغيرها من الحرف التي يكثر الطلب على المتخصصين فيها، وتعتبر من أكثر الحرف دخلا يوميا. وهو ما سيحصنهم من الانحراف مع ملء أوقات فراغهم بالنشاطات الثقافية والترفيهية الممتعة والمفيدة وتلقيهم مختلف العلوم والمعارف في مجتمع عرف عبر التاريخ بالعلم والمعرفة والحصافة.
دور العلماء والإعلام والمجتمع المدني
وهكذا نجد أن تكاتف جهود قطاعات حيوية كالتعليم والشؤون الإسلامية والصحة والشؤون الاجتماعية والثقافة والشباب والرياضة والاقتصاد والمالية، وغيرها من القطاعات ذات الصلة، ودور الزراعة والصيد والبيطرة (الثروة الحيوانية) والمعادن ومصادر الثروات المختلفة، سيكون لها كبير الأثر في إنجاز مقاربة شاملة من هذا القبيل.
ويبقى من الملح أن يتاح للعلماء والفقهاء أداء دورهم المنوط بهم في التوجيه والإرشاد سواء من خلال منابرهم في المساجد أو في حلقات خاصة بالشباب في أماكن مخصصة لهذا الغرض وكذلك في السجون، وهو دور سيكون له تأثيره البالغ على غرار حلقات الداعي الكبير الشيخ محمد ولد سيدي يحي الذي ربى أجيالا كاملة من أبناء مجتمعنا على الاستقامة والعفة رغم عدم وجود عوامل أخرى مساعدة له كالتي نتحدث عنها الآن.
كما أن للصحافة والإعلام المهني الملتزم دور محوري في التوجيه والإرشاد والتحسيس وتنوير الرأي العام، وخاصة الشباب، حول مختلف الأهداف الجوهرية التي تشكل رافعات لا غنى عنها للنهوض بمجتمعنا والرقي به إلى مصاف المجتمعات المتحضرة. وهو نفس الدور الذي يقع عبؤه الأكبر على منظمات المجتمع المدني التي تباشر العمل ميدانيا لتنفيذ بنود مقاربات وخطط الإصلاح والتنمية.
صحيح أن تنفيذ بنود مقاربة شاملة كهذه يتطلب موارد مالية ضخمة، قد لا تكون متوفرة في الوقت الراهن، لكن إرادة التغيير نحو الأفضل والبحث عن سبل ناجعة للنهوض والإقلاع الاقتصادي الحقيقي مع توفر موارد طبيعية هائلة لا ينقصها إلا حسن التسيير والاستغلال المعقلن للموارد سيكون كافيا لإنجاز مقاربات أكثر شمولية ونهضة تنموية حقيقية تودع بها بلادنا الفقر والتصنيف ضمن الدول الأكثر تخلفا في مختلف المجالات.
أحمد مولاي امحمد
العدد 657 من صحيفة التواصل بتاريخ 21 يونيو 2021
مُرفقان (2)