فتح جديد في الإجراءات وحماية الحريات:
بالرغم من نص الدستور الموريتاني في المادة 91 على أن السلطة القضائية هي حامية حمى الحريات الفردية، إلا أنه يطرح دائما إشكال يتعلق بعدم وجود نص اجرائي في القانون الموريتاني يمكن من تعهيد قاض يبت في شرعية حالات المنع من الحرية في المرحلة السابقة على تعهد قضاء جالس في الموضوع، خلافا لما عليه الحال في بعض الأنظمة المشابهة من النص على قاض متخصص في الحريات (فرنسا منذ سنة 2000، ومشروع قانون في المغرب لا أعرف المرحلة التي وصلها اليوم.).
غير أني أعتقد أن فتحا إجرائيا حريا بالدراسة تحقق خلال الأيام الماضية بعد أن تم تعهيد رئيس محكمة الولاية باعتباره قاضي الحريات على الأسس التالية:
1-أن الحق في اللجوء الفوري إلى المحاكم من أجل البت في شرعية المنع من الحريات الفردية المكرسة دستوريا، منصوص في المادة 4 من قانون مناهضة التعذيب، والمادة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية و المادة 8 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان، والمادة 7 من الميثاق الافريقي لحقوق الانسان، ومعلوم أن للمعاهدات او الاتفاقيات الدولية المصادق عليها من موريتانيا قيمة أعلى من قيمة القوانين العادية طبقا للمادة 80 من الدستور.
2-أن عدم التنصيص الصريح على جهة الاختصاص في البت في الدعاوى المتعلقة بانتهاك الحريات الفردية والعامة، في ظل النصوص أعلاه التي تكرس حق اللجوء للمحاكم لحماية هذه الحريات، وتجعل من القضاء حامي حماها، يحتم الرجوع بشأنها إلى القواعد العامة، لأن القانون لايقبل الفراغ خصوصا إذا تعلق الأمر بالحريات.
3- أنه بالرجوع الى القواعد الإجرائية العامة نجد أنها إنما وضعت لاعتبارات عامة تهدف بالأساس لحسن سير العدالة، وضمان نيل الحقوق وحمايتها، مما يحتم استقراء النصوص لتحديد جهة الاختصاص، والقول بغير ذلك يؤدي إلى تحصين أعمال النيابة العامة وأعوانها الماسة من الحريات المكفولة دستوريا، وهو ما تأباه قواعد العدالة والانصاف، ويشكل انكارا للعدالة في ظل النصوص الكثيرة المؤكدة على حق اللجوء إلى القضاء ألجالس المستقل للبت على وجه فعال في دعاوى المساس بهذه الحريات.
4- أنه باستقراء النصوص الإجرائية نجد بوضوح اسناد الاختصاص في حماية الحريات الفردية والعامة التي لا تدخل في عهدة محكمة محددة لرئيس محكمة الولاية، من ذلك ما نصت عليه المادة 42 من ق ا ج بشأن الأصلاح الجزائية، والمادة 637 من ق ا ج بشأن مهام قاضي تنفيذ العقوبات التي تمس من الحريات، والمادة 671 من ق ا ج بشأن المنع من الحرية تنفيذا للإكراه البدني، والمادة 277 من قانون الشغل بشأن المنع من ممارسة حرية العمل النقابي، والمادة 11 من قانون حرية الصحافة بخصوص الاشعار المخول لممارسة حرية الصحافة، مما يدل على أن رئيس محكمة الولاية هو قاضي الحريات المختص في دعاوى المساس بها.
5-أن هذا المنطق في النظر لحماية الحريات ليس جديدا على الاجتهاد القضائي المقارن، فقد كرسته محكمة النقض المصرية في اجتهاد شهير لها بتاريخ 14 يونيو 2010 في الطعن رقم 48117 وحملت القاعدة المستخلصة رقم 58 .
6- يعضد هذا المنحى أن قانون الاجراءات المدنية -الشريعة العامة في الاجراءات- ينص في المادة 38 على أن على الطرف الذي يثير عدم الاختصاص تلافيا لعدم قبول طلبه أن يعين المحكمة المختصة، وتنص المادة 49 على انطباق هذه القاعدة على ما تثيرة النيابة العامة من هذا القبيل، كما تنص المادة 48 على أن المحكمة لايجب عليها أن تصرح تلقائيا بعدم الاختصاص النوعي إلا اذا اسند القانون الاختصاص للمحكمة العليا أو لمحكمة ادارية او لمحكمة زجرية أو كانت القضية لاتدخل في اختصاص المحاكم الموريتانية، او اذا تم خرق قاعدة اختصاص نوعي تهم النظام العام، ويفهم من ذلك أنه لايمكن الدفع بعدم الاختصاص إذا لم توجد جهة اختصاص محددة قانونا، كما لايمكن للمحكمة أن تصرح تلقائيا به عندما لايكون القانون قد أسند الاختصاص لجهة محددة بقاعدة من النظام العام. لذلك أعتقد أن فتحا إجرائيا عظيما قد تحقق في هذا المجال بصدور الأمر رقم 05/2021 بتاريخ 18 مارس 2021 عن رئيس محكمة ولاية نواكشوط الغربية، عندما تم تعهيده بناء على الأسس السابقة في القضية التي تحمل الرقم 01/2021 المتعلقة بطلب البت في دعوى عدم شرعية منع الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز من السفر لمدة ستة أشهر بقرار من النيابة العامة، حيث أحيل الملف لديوان التحقيق أثناء نظر الدعوى، غير أنه ورد في الأمر ما يمكن اعتباره أساسا لاختصاص رئيس محكمة الولاية بقضايا الحريات مادامت لم تتعهد بها محكمة أخرى، فرغم أن القرار قضى بعدم الاختصاص إلا أنه علل ذلك بتعهد قضاء التحقيق في الموضوع فقال: (إن المحكمة لم تعد بحاجة لنقاش ما اورده الطرفان من مبررات لطلباتهما، نظرا لعدم اختصاصها في البت في القضية مادام قضاء التحقيق قد تعهد بها).
وبمفهوم المخالفة تكون المحكمة مختصة عندما لايكون قضاء التحقيق قد تعهد. ونحن نأمل أن يكرس هذا الاجتهاد فصلا جديدا من حماية الحريات، تضطلع فيه السلطة القضائية بكل قوة بأحد أهم أدوارها الدستورية الذي هو حماية حمى الحريات الفردية.
محمد المامي ولد مولاي اعلي