كج انواكشوط !

جمعة, 26/02/2021 - 11:40

 

كانت مدينة انواكشوط في تسعينيات القرن الماضي، مدينة هادئة، سياراتها معلومة العدد، كذلك المنازل الفاخرة، حتى أن واحدة من البنايات التي شاعت في فترة لاحقة سميت ب "كج انواكشوط" !

كان (الكج)قليلا في كل المجالات و الميادين، و كلما ظهر منه نوع جديد ذاع و طارت أخباره في كل مكان سواء تعلق الأمر بالسيارات أو السفر بالطائرة أو الحج و التعيين و حفلات الزفاف التي كان أفخرها يقام في أماكن متعارف عليها !

كانت مدينة انواكشوط آنذاك فعلا مدينة كادحين، يرمون بأجسادهم في نهاية كل مساء على حصائر و وسادات موزعة على أصحابها بالإسم (وسادة فلان) ، و طبعا كان حشو وسادة الوالد خاصا و وسادة الوالدة بنك صغير ...!

كان الشم (اشتوكة) من أكثر المواد الاستهلاكية انتشارا بين صفوف الوالدات الطيبات حيث يتبادلن بوش الشم في جلسة لا تخلو من تكافل ذهني ! كانت انواكشوط آنذاك مدينة صغيرة جدا، يمكنك أن تصل أحياءها البعيدة على قدميك في وقت وجيز، حيث كنا نطوي المسافات بقبضات (تشاف و كاصاماصا و الكارور و تجمخت ...)

كان عدد اللصوص في المدينة معروفا و أخبارهم في متناول الجميع، كان الانحلال الأخلاقي وصمة عار، أهله منبوذون، تلعنهم الأزقة و الطرقات بأسمائهم و صفاتهم ! كانت المدرسة مكانا مقدسا، يلتقي فيه أبناء الفقراء بأبناء الأثرياء و هم جلوس على (الدص) غالبا، و ما كانت أشياؤهم المادية هي التي على أساسها يتميزون، بل؛ النباهة و القدرة على التحصيل و التفوق هي أساس التباهي و (الكج)!

كان كل شيء على ما يرام و كنا في تمازج تذوب فيه الفروق المادية و الاحتماعية، حيث أبواب المنازل مفتوحة أمام الجميع و تفاصيل الحياة كلها مشتركة ، الأفراح و الأتراح و حتى الأواني و القداح، كل شيء يحكي فعلا حكاية شعب يمتلك من القدرة على صناعة الحياة ما لا يخطر على بال من لم يعش تلك الحقبة المضيئة من تاريخ مدينة انواكشوط !

و بينما نحن في غمرة تلك الحياة و ذروة ذلك المجد إذ اطلع علينا يوم شديد سواد المطلع، ترامت فيه أطراف المدينة و تطاول أهلها في البنيان و تحركت الأشياء بقوة ما إلى المجهول، على نحو استيقظنا في نهايته على ساكنة أخرى و مجتمع آخر ليس فيه غير (كاج) أو (مكجوج)، و الأدهى و الأمر هو أن ثلة من اللصوص الكبار و أصحاب المال و السلطة، تمارس بكل فجاجة عملية ( دكج) ممنهج على بقية الشعب، الذي انخرط هو الآخر في ذات العملية فيما بينه كل على مستواه !

و لكي لا أطيل عليكم؛ كانت انواكشوط غير انواكشوط اليوم، قبل أن تتحول إلى مدينة (كج) في كل تفاصيل الحياة !

من صفحة : حمزه المحفوظ