من المعروف عبر تاريخ البشرية أنه لم يسلم الأنبياء و الرسل و الدعاة و المصلحون و المربون من حملات التسفيه و التشويه و التشويش، وصلت في مراحل متقدمة حد التعذيب و التهجير بل و التقتيل و التشريد و محاولات و تدبير المكائد و التخطيط لها من قبل أعداء الحق و حراس الوهم، لكن في يومنا هذا و بعد أن طال الخراب و الدمار كل بناء و أكلت نار الفتنة أخضر الأرض و يابسها، و سبح في أنهر الدماء صغيرها و كبيرها، بات من الواضح الجلي أننا نسير في قنوات عدم و فناء لا نهاية لها، إلا بتحكيم العقل و الرجوع للحق و الاحتكام لشريعة الرحمة التي قفزت عليها لغة الحديد و النار في معمان تهالك عبثي لا دين له و لا عقل، ذلك التهالك المتمثل في تنازع بقاء اختلطت فيه كل المصطلحات و انخرطت فيه كل الجبهات !!
حاجة الأمة اليوم في السلم باتت من البديهيات بل و من أولويات الخطاب الديني العاقل، بعدما جرب كثيرون خطاب الحرب و فتاوى الموت، التي و إن كان القصد منها إزالة الظلم و تحقيق العدل فإنها تحولت مع الوقائع و التجارب إلى نيران مشتعلة طالت العالم قبل الجاهل و المظلوم قبل الظالم، بدلت الأمن خوفا و الصحة مرضا و جوعا و ضياعا، أرهقت البشر و الحجر و المدر....!
تلكم الحاجة التي تلبيها دعوة الإمام عبد الله بن بيه، دعوة قلوب تبعث الحياة في النفوس و تعطي للمسلمين أملا في الاستراحة من ويلات الحرب و العداوات، و إحياء قيم التسامح التي تنبني على التنازل عن بعض الحقوق الخاصة من أجل المصلحة العامة، كما كان النبي عليه الصلاة و السلام يفعل (صلح الحديبية) مع الكفار:
(..... فلما اتفق الطرفان على الصلح دعا رسول الله علي بن أبي طالب فقال له: اكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم ".
فقال سهيل: أما الرحمن، فما أدري ما هو؟ و لكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب!
فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم
فقال: "اكتب: باسمك اللهم "
ثم قال: "اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله"
فقال سهيل: والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، و لكن اكتب محمد بن عبد الله
فقال: "إني رسول الله و إن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله ".....)
الإمام ابن بيه يملك برجاحة حجة القرآن و بيانه ما يخوله المضي بدعوته المباركة في كل حدب و صوب، و أن يكلم المسلمين و الملحدين و الكفار....أن يكلمهم بالقرآن، و أن يُسمعهم من دواء قلوبهم و شفاء صدورهم ما به تقوم عليهم الحجة و به يصون حرمة دماء المسلمين و يذب عن حياض الإسلام أن تدنسها دعوات التقتيل و التشريد و الإرهاب و الظلم و التحريف و الاحتراب الهمجي ..... و له من التفوق و السبق العلمي و التجارب و الاطلاع، و من الحكمة و الحنكة و العقل .... ما يجعله متقدما في نظرته و قراءته، و فهمه لمتطلبات المرحلة على كثير ممن يخوصون في التنظير الديني لفاتورة دماء تدفعها الشعوب ثمنا لحرية وهمية إذ أنه "لا يمكن تحقيق غايات نبيلة باستخدام وسائل رديئة".
إن المكانة المشرفة و المصداقية و الهيبة التي أكرم الله بها الإمام ابن بيه هي من ذلك الميراث النبوي الذي هدى الله به مشارق الأرض و مغاربها، و ذلك الخلق الذي سكن به المصطفى عليه صلاة الله و سلامه قلوب من يلقونه و يرونه و يسمعونه قبل إسلامهم و بعده!
الإسلام دين الناس كافة (و من يبتغ غيرالإسلام دينا فلن يقبل منه)، لذلك كان الأنبياء يجوبون البلاد، يرفعون النداء مبشرين و منذرين، فكانت رُسل النبي المصطفى تنطلق منذ فجر الإسلام إلى كسرى و قيصر و المقوقس و سائر البلاد، فرسالة الإسلام أعظم و أشمل و أوسع من أن تكون فئوية أو عرقية ضيقة.
الإسلام حق لكل آدمي أن يصله و أن يسمعه و أن يراه في خلق المسلم (كل أمتي يدخلون الجنة إلا أبى، قيل و من يأبى يا رسول الله، قال من أطاعني دخل الجنة و من عصاني فد أبى )، تلكم هي مهمة الانبياء التي يستحضرها الإمام ابن بيه حين يقول: "إن مهمة العالم هي أن يرحم الناس لا أن يعذبهم ...أن يدلهم على الجنة، لا أن يعجل بهم إلى النار".
فكر الأنبياء و ورثتهم، فكر عالمي ينهل من وحي العدل الذي شرع الدعوة بالحكمة و الموعظة الحسنة دستورا لعباده المخلصين، لكنه فكر محفوف بالمثبطين و المشككين ممن عجزوا عن التأثير فتأثروا !
إن الذين يحاولون التشويش و رمي الأشواك في طريق الإمام، لم يكلفوا أنفسهم قراءة خطابه و لا تدبر معاني درره، لم يحظوا بشرف فهم دلالاته ومراميه، حيث جمحت بهم الحسابات الخاصة و المنابذات الآيديلوجية إلى بناء منظومات تخوينية مصمتة، حولتها الاخفاقات المتلاحقة إلى ماكنات ضجيج و تشويش تحيل في تحاملها و دعايتها المغرضة إلى العقبات التي اعترضت دعوة الإسلام في المهد:
(روي عن محمد بن إسحق عن ربيعة بن عباد الديلي قال "إني لمع أبي غلام شاب، أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يتبع القبائل، و وراءه رجل أحول وضيء ذو جمةٍ، يقف رسول الله صلى الله عليه و سلم على القبيلة فيقول "يا بني فلان؛ إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله، لا تشركوا به شيئاً، و أن تصدقوني و تمنعوني، حتى أنفذ عن الله ما بعثني به"، و إذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه: يا بني فلان، هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات و العزى، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيس، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له وتتبعوه، فقلت لأبي: من هذا؟ قال: عمه أبو لهب").
جنحوا بخيالاتهم إلى الصور فأنطقوها على مقاس مخيلتهم و طول امتداد جموحهم عن الاستنطاق المنصف لتأتي مساهماتهم في حملات الإساءة على أكف عفاريت من التناقض يفضحها سبق القلم و لحن القول!
قد نتفهم الخطأ و صاحب الخطأ مادام خطؤه يملك من التأويل قدر ما يترتب عليه من المآلات، لكن أن يكون الخطأ شريعة و أن تكون المكابرة بديلا عن التوبة و تصحيح الأخطاء، فلا شك أنه في الأمر شيء يتعلق بثانوية الدين و المصلحة و إقصاء العقل و القلب في سبيل اشباع رغبة خاصة و تحقيق مأرب ضيق!
الإمام عبد الله بن بيه يحمل لواء الاصلاح و رسالة الرحمة التي جاء بها الكريم المصطفى عليه الصلاة و السلام، فبعد أن سفكت الدماء و قطعت الأرحام و غرقت الأمة في جاهلية النعرات و الحميات و الاقتتال و الافساد في الأرض، يأبى الله إلا أن يكون على الأرض رجل رشيد، يذكر الناس بالله، يذكرهم برحمة الاسلام، يذكرهم بحرمة الدماء، يذكرهم بهدي نبي بعث رحمة للعالمين، بعث للناس كافة.
ابن بيه يأخذ بحجز القوم عن النار و هم يتفلتون إليها !
مهما كابر القوم و ساروا في قنوات العدم، في قنوات الاحتراب الدائم و الفناء الأبدي، يظل الإسلام دين سلم بين المسلمين، دين هداية للعالم بأسره، دين قلوب و عقول.
مهما حاولوا التشويش و التشويه و مهما همزوا و لمزوا، فالله متم نوره بحول منه، فيا من تقفون على حافة الجرف (أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم ،،، أو سدوا المكان الذي سدوا).
حمزه ولد محفوظ المبارك