محمد سدينا ولد الشيخ
عطلت حدود الشريعة الإسلامية في موريتانيا و أعفيت يد السارق ولم تعد تظهر على المفسدين علامات تميزهم عن بقية الناس ،ما مكن بعضهم من التخفي والعود مرة تلو المرة مطورا مهارته كسارق وزعيم .
عم الفساد البر والبحر وصار كل شيء يوظف لصالحه ،حتى حقوق الإنسان سخرت لحماية المفسد من القطع ،ما مكنه من انتهاك حقوق شعب بأكمله .
التنوير هو الآخر سخر لخدمة الفساد ،لأن بعضا من شيعته كانت لهم مطالب تتعلق بتعطيل حدود الشريعة التي وجدها ظلاما لما نظروا إليها من منظار وساوس المستشرقين والمستغربين التي لا تنبع منهج فكر منسجم يمكن الكون إليه .
وساوس المستشرقين والمستغربين ليس لها زمان فنجد أبا العلاء المعري كان ضحية لوساوس مماثلة ، وربما اندس اليوم من سعى إلى زرع الوساوس والشكوك وقتل الطموح في مستواه الأول ،أي قتله على مستوى الأمل .
المفسدون سخروا بأنات شعب ضعيف زعزعوا ثقته في كل شيء وتركوه حائرا شاكا في كل شيء حتى في معاييره المتوارثة المتعلقة بالثقة في الناس ،وعملوا على محو ذاكرته لتوفير أرضية مناسبة لمختلف أنواع النسيان ،والتي هي الأخرى لها صلة بانعدام الأرشفة وضعف التوثيق ونشر التزوير والكذب ،وصارت هذه المعوقات كلها روافد تصب في هدفهم المتمثل في منع حصول ثقة أو عقد عزم ينطلق منه أمل .
من دون توفر الثقة واليقين والأمل لن يقتنع الإنسان بإنجاز أي عمل ،ومن دون قواعد متأصلة يرضخ لها الجميع لن تتوفر أرضية للانطلاق نحو التنمية ،وتلك القواعد في مجتمعنا هي الشريعة .وبه استفادت نظم الفساد من دعوات دعاة التنوير وحقوق الإنسان المناهضة لتطبيق حدود الشريعة ،رغم كونها الآلية الفعالة الوحيدة القادرة على مواجهة الفساد .
وفي مواجهة الفساد وجنده كان بعض الفقهاء ولا زالوا يحملون أمانة حراسة نظم المتجمعات ،لا تأخذهم في الحق لومة لائم ولا يربطون مستواهم العلمي بمستواهم المعيشي كالقاضي عبد الوهاب ابن نصر البغدادي إمام مالكية العراق ،الذي ظل يحمي الشريعة وحدودها ،رغم الظروف الصعبة التي عاشها في بغداد أيام ازدهارها ، والتي قال عنها :
بغداد دار لأهل المال طيبة ،، وللمفاليس دار الضنك والضيقي
ظللت حيران أمشي في أزقتها ،،كأنني مصحف في بيت زنديقي
تلك الظروف لم تكن لتفت في عضد القاضي عبد الوهاب ولا في عزمه ولا مواقفه ،فانبرى لأبي العلاء المعري لما شكك في عدالة حد قطع يد السارق ،حين قال :
يد بخمس مئين عسجدا فديت ،،ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض مالنا إلا السكوت له ،،ونستعين ببارينا من الناري
رد عليه القاضي عبد الوهاب قائلا :
عز الأمانة أغلاها وأبخسها ،، ذل الخيانة فافهم حكمة البار
وهي مناظرة صيرت أبا العلاء أبا النزول ، يقول أبا العلاء عن نفسه :
دعيت أبى العلاء وذاك فني .. ولكن الصحيح أبا النزول
وإذا أردتم بالدليل العقلي معرفة حكمة الله من الأمر بقطع يد السارق فعليكم في مرحلة أولى تذكر أننا قلنا أنه من دون يقين لن يتحقق عمل ،ما يعني أن تصرفات الإنسان إنما هي ترجمة لما يقتنع به ،وعليكم في مرحلة ثانية أن تتخيلوا الصورة التي نقدم لكم كمثال ،ثم تتابعوا معنا الملاحظات المستخلصة :
لو افترضنا وجود رجل مكتمل الجسم غير معاق يتمتع بلياقة بدنية عالية سريع الحركة ويعرف مهارات ومهن ويعرف بعض العلوم واللغات ،لكن وقع ما لم يكن في الحسبان حين أصيب بشلل في لسانه ويديه وقدميه وبقي عقله سليما حاضنا لتلك المواهب دون أن تكون له قدرة على التعبير عنها أو تجسيدها في الواقع ،لأنه لا يمتلك وسيلة لتجسيدها واقعيا إلا باستخدام الأعضاء المفقودة ..فهل يستطيع هذا الإنسان تجسيد شيء من مواهبه تلك في الواقع ،بمجرد أنه يمتلك فكرا مجردا لا يستطيع التعبير عنه بكتابة أو كلام أو إشارة ؟ الجواب طبعا ب لا .
وإذا سلمنا بعد هذا أن العقل مشتمل على نمط تفكير بناء يمكن لصاحبه استحضاره عند إرادته القيام بتصرفات بناءة ومفيدة له وللمجتمع ، وعنده أيضا نمط تفكير هدام يمكنه استحضاره عند إرادته القيام بتصرفات شاذة تضره وتضر المجتمع .
وبهذا تكون اليد كأي عضو آخر تقبل أن تستقبل أوامر من العقل تعطيها توظيفا إيجابيا نافعا للناس ،كما يمكنها أن تستقبل أوامر سلبية منه تجعلها توظف في نشاط سلبي ضار بالناس .
وانطلاقا من ذلك يكون الفرد الذي يدعم استمرار الاجتماع البشري يوجه عمله نحو نمط كسب مادي يفيد الناس في حياتهم ويحترم لهم حقوقهم في الملكية وغيرها،بينما اللصوص لا تتجه إرادتها إلى ذلك ،بل تتجه إلى قطف ثمرات جهود الآخرين وسحب الاعتراف بحقوقهم في التملك ،وهو أسلوبهم الوحيد للكسب المادي رغم ما ينطوي عليه من ظلم واستعباد للناس .
وفي سبيل كسبهم هذا يبذلون جهودا ومهارات لو بذلوها في تحقيق كسب مشروع لحققوا أضعاف أضعاف ما حققه ضحاياهم،لكن سيطرت عليهم أفكار خبيثة دمروا بها ثمرات جهود الآخرين وعطلوا بها جهودهم الذاتية عن الإطلاع بدور في التنمية ،ما يحتم قطع أيديهم حتى لا تقطع عرى المجتمع .
وبهذا يكون اللص شخص متوحش معاد للاجتماع البشري ،وأكثر أنواعه خطورة هو لص المال العام الذي سحب اعترافه بحق الملكية لأفراد شعب متخذا وظيفته وسيلة للاستعباد ،واعتقد أنه يملك الحق وصاحبه وتصرف فيهما تصريف المالك في ملكه دون التقيد بقواعد القانون .
ومن هنا يظهر الصراع الحتمي بين يد الفساد ويد الإصلاح ،وأن إحداهما لا محالة سوف تقطع الأخرى ..فهل تستطيع يد الإصلاح قطع يد الفساد ؟ .