هل تكفي اللغة والدين والعرق والتاريخ والجغرافية لتكوين هُويّة مجتمع ما ؟
وبالتالي هل ستكون هُويّة هذا المجتمع أو ذاك متجانسة بنسبة معقولة ومقبولة بحيث يتماهى أو يذوب فيها الجزئي بالكلـي عن رضا وقناعة ، أو بكلمـة أدق يتنازل فيـها الجميع للجميع بما يخدم الصالح العام والهُويّة الجامعـة المانـعة التـي نطمح إليها؟ أم أن ثمة تباينات وتنافرات لا يمكن طمسها ومحوها أو إذابتها؟
وحال وجود تباينات وتنافرات ، هل ستبقـى هـذه التباينات وتلك التنافرات منطوية أو متراجعـة لمصلحـة عنصر من عناصر الهُويّة أكثر بروزاً ووضوحاً؟ وبالتالي ، هـل من المـمـكـن أن نصـل إلـى اتـفاق، من شـأنه سحب البـساط من تحـت عـوامـل الاختلاف والتنافر، لمصلحة عنصر من عـناصر الهُـويّـة يتفق عليه أكبر قدر ممكن من فئات المجتمع ، بحيث يكون من شأنه إنتاج ما يمكـن تسميـته بالهُـويّـة الوطنـيـة يخضع لها الكل عن رغبة أو رهبة ؟
طبعاً لن نتـردد بالقـول ، إجابـة عـلى السـؤال آنف الـذكر، أنه ليس من الاستحالة بمكان أن يصل أي تجمع بشري لتلك الهُويّة الجامعة المانعة حال قيام عقد وطـني ، قوامه الرغبة الصادقـة والإرادة الحقيقـيـة والنـوايا الصافـيـة لدى الأطراف المعـنـية كافة، ينتج عن ذلك العقد قانون يُنظّم علاقات ذاك التجمع البشري ويقف على مسافة واحدة من هاتيك الأطراف المعنية والمفترضة. وبغير هذا من الصعب الحديث عن وطن ومواطن وبالتالـي هُـويّة وطنية.
ومن البديهـي أنـه فـي حالـة كهـذه لن يعود هناك مجال للحديث عن أقلية وأكثرية بالمعنى الديني إطلاقاً، وإنما هناك أكثرية وأقلية بالمعنى السياسي فقط.
ويمكننا أن نضيف في ما يتعلق بالأكثرية والأقلية، بالمعنى الديني، إنها نادرة جداً هـي الحالات التـي اختار فيـها الناس دينـهم ( من غير أن ننفي وجود حالات فردية نادرة ) ، إذ من المعروف أن الفرد منا يولد ويرث عن والديه ، ومن جملـة ما يرث يرث الديـن كـذلك ، ونسبة هـذا الديـن أو ذاك إليـه من قبل الآخر، حتى لو كان ذلك الفرد متبرئاً منه علناً أو ضمنياً.
وفي حال لم ينحصر السؤال الديني وخطابه لدى الأكثرية ( بالمعنى الديني ) في العـلاقـة الفردية للشخـص مع خالـقه ، بعيـداً كل البـعد عـن قضايا التبشـير وتـوزيع شهادات في صدق الإيمان وحُسن الإسلام والسلوك لبقية الخلق .
والسؤال يطرح أيضاً سؤالاً آخر: هل الهُويّة تُفرض فرضاً (بالترهيب) أم هي في جوهرها إرادوية ورغبوية ؟ وهل تتكون مرة واحدة والى الأبد؟ ومن ثم ، هل هي صيرورة أم سيرورة ؟
وهو في الحالات كافة يشير أيضاً، من جملة ما يشير،إلى نوع من حالة الاغتراب الذي يعيشه عنصر الشباب بفعل ضغوط الواقـع المعـاش وحـالات الـيأس والإحـباط التي تعتري حال هذا الجيل ، وهـذا ما لـم يعـشه جيل الآبـاء. بحكم أن الواقــع الذي عاش فيه جـيل الآباء ـ عنـدما كانـوا شـباباً ـ كان ينطوي علـى إمكانات كبيرة وعلى فسحـة واسعـة من الحلـم الـذي قـد لا يتـوفــر منه شـيء لكثـيـريــن من جيـل شـباب اليوم! على الأقل راهناً!
وما سبق ذكره هو ما يُفسر لنا- في أحد جوانبه ـ رؤية فتاة مُحجبة تمشي جنباً إلى جنب مع والدتها السافـرة ، ولا عجب بعـد هـذا أن نـسأل لماذا الفـتاة مُحجـبة فـي ما والدتها سافرة ، إذ هما من جيلين أفرزهما واقعان مختلفان اختلافاً شبه كلي!
ومن المفارقات التي يمكن أن نستخلصها من تناقض سلوك جيلين ، هـي أنه بقدر ما كان الحـديث عن الانتـماء الديـنـي يعتبـر أمـراً معيـباً وشائناً فـي ستينـيات القرن الماضي ( أي جيل الآباء) بقدر ما راح يغدو مع مرور الوقت، ذلك الانتماء، أمراً طبيعياً و«لائقاً» ومقبـولاً فـي القرن الحادي والعشـرين! طبعاً هـذه المفارقـة ليست حكراً على مكونات المجتمع ، بل تكاد تكون ظاهرة عالمية وعامة بامتياز.
لكـن إلـى أيـن يمكـن أن يفـضـي بـنا ذلك كـله؟ وهـل السبب كـامـن فـي الخـارج وضغوطه فقط أم الداخل وتعقيدات مشاكله؟ أم تراه ما يزال قابعاً فـي بنيتـنا الثقافـية التي تعاني هي الأخرى من اهتـراء وتفسـخ حقيقيـين؟ أم هـو كائن فـي هـذا وذاك؟ لا نزعـم إمكان الإجابة عما طرحناه من أسئلة، لكن يتوجب علينا القول إنها مظاهر بتنا نشهدها طافـية عـلى سطح حياتنا منذ حـين من الـزمن ولا بد من دراسة أسبابها ومسبباتها جدياً، خاصة أثناء الحديث عن هوية وطنية.
البـــاب الرابـــــع
صناعـة الهويــة
ثابت أم متحول ،أساسي أم ثانوي، عنصر تقدم أم انكفاء على الذات ، معطاء أم مقيد ، ديناميكي أم متكلس ، فقد شكّـل مفـهوم الهـوية منذ آلاف السنـين وحتى اليـوم إشكالية غير قابلة للتجاوز في الوضع البشري. الأمر الذي لا يعني بحال عدم القدرة على عقلنة هذه الظاهرة أو تفكيك عناصر تواجدها فـي المجتـمعـات البشرية. مفهوم غامض ومعقد ومتشعب برزمحركا للتحرر،عامل وحدة للجماعة، وعنصر تمايز وتباعد لها عن الآخر وهميا كان أو حقيقيا. هذا المكون " الثابت " في عتلة التغيير، كان أحيانا المنظم الأساسي لإعادة بناء العلاقات بين البشرية، وأحيان أخرى العائق الأساس أمام مسيرات التحول في تاريخ الأقوام والشعوب.
ستختـلف الأسـماء والأسـباب والمقـومات وستـبقـى هـذه العمـليـة التأملية للتمايز والتـشابـه ، العـام والخـاص ، النحـن والآخـر، العـالمـية والخصوصـية ، فـي صلب التكـويـنات الثقافـية للبـشريـة. ذلك باعتـبارها أكثر من سؤال الهوية لوحده، المؤجج الدائم لإعادة اكتشاف الإنسان لنفسه أفرادا وجماعات .
ليست الغاية هنا كتابة تاريخ " الهويات " ، بقدر ما هي استقراء المفهوم ومكانته الخاصة والعامة في الأزمنة الحديثة.
لعبت الشعائر دورا هاما في التمايز الثـقافي للجماعات. ورغم أن المسيحية شكلت تراجعا في الشعائر الشرقية فـي تداخلها مـع الوثنية الأوربية وتأسيسها لعالمية الدين وفكرة التقدم، فقد ارتبطت إنسانية الإنسان فيها بالعمادة لا بالولادة. الأمر الذي نجده عند العديد من المعتقدات الإحيائية في إفريقيا التي جعلت من وشمها الخاص بطاقة هوية تزرعـها عـلى الجسد.. الرغـبة فـي شعـيرة متمـيزة رافـقت السيـرورة الدائمة للاختلاط الطوعـي أو الإكـراهـي الـذي جعـل من كـل نقاء عرقـي أو قبلـي أو إثنـي مجرد أسطورة جميلة يرويها الآباء للأبناء. بهذا المعنى ، لم تكن الهـوية بنـية مغلـقة سكونية ثابتة ، بل لم يكن بوسع أية جماعة أن تنتمي للعالم دون أن يتغلغل العالم فـي مقوماتها الداخلية وأن تدغـدغ فضـوله ببعض الخصائص الخـلاقة في وجودها. لعل من الأمثلة الأكثر بلاغـة فـي التاريـخ لعملـية غسـل الـدم الدائـمة للهـوية ، التجـربـة الإسلاميـة.
فقد تحـولت من دعـوة دينـية إلـى دولة - مدينة إلى إمبراطورية إلى دين كوني. ذلك بتعبيرات دينية هنا ودنيـوية هناك ، عبر عمليات انصهار واندماج دائمة فـي الثـقافة والحياة. عمليات ولاء وانتماء وتـزاوج وتداخل ، كان العنصر المشترك الأساسـي بينـها المرونة والقدرة عـلى إعادة تمـثل صـورة الـذات ، عـلى الأقـل فـي القرون الأربعة الأولى.
الكرامــة الجديـدة!
لم تكن معجزة أو نعمة إلهية، بل كلمة مشحونة بالمعاني السلبية والانتقاصية هـي التي ستتصدر سلّـم المفاهيـم الصاعـدة مع الثـورة الصناعية ، لتصبح سريعا مصدر الهـواجس والتـوترات وتعبـيرات القـلق فـي الحياة العملـية للنـاس وتكّـون سلّم القيم الجديدة بآن. العمل ، هذه الكلـمة ستـنال بركات الإصـلاح المسيحـي وهديـر النضال النقابي والتوسع الرأسمالي وتصبح مصدر التأمل الفكري والأخلاقي. "محددة القيم" عند آدم سميث ، سبب الحياة الأفضل عنـد الإنسـانـي فورستييه ، العمل هو الجوهر عند تورغوت Turgot ، سيترجـم هيـغل هذا التحول فلسفيا بالقول أن العمل لم يعد وضعا ماديا خارجا عـن الإنـسان ، ودون عـلاقـة بمصـيره الفعـلـي ، وإنما جـوهـر وجوده .
فريدريك إنجلز سيفسر بالعمل نظرية داروين في تحول القرد إلى إنسان. ومهما اختلفت المدارس الفكـرية الليـبراليـة والاشتـراكـية ، فقـد شكـل العمل قاسمها المشترك الأعـلى. بهـذا المعـنى ، طرحت الحضارة الغـربـية العـمل كقـيمـة عـامـة وعالمـية ، لا تتمـوضـع فـي دين أو دنيا، في مركز أو محيط، في لون أو عقيدة أو إيديولـوجـية ، فـي جنـس أو كـون.. ومـع إعادة تعـريف العـمل تمـت إعـادة تعريف الأفراد وعلاقتهم بالجماعة والدولة.
دخلت الثـقافة الغـربـية الأقـوى فكـرة الشخص باعتبارها نتيجة لمسار تغيرت فيه أنماط التعرف على الذات مع التغيرات العميـقة فـي التنـظيـم الاقـتصادي والسيـاسي والرمزي للعلاقات الاجتماعية. بدأ هذا الشخـص من جنـس الـرجـال أبيـض اللون ، أوربي المنشأ، مدني الحقوق في الدولة - الأمـة كمشـروع تاريخـي تـرى فـيه الأمـم الأوربية نفسها باعتبارها المركز، المصدر والمـرجـع الأسمـى لـلآخـر. هـذا الآخـر نادرا ما استحق مصطلح الأمة الـذي تـم حصره في الدول "المتحضرة".
يذكّر بذلك تايلـور فـي استعـراضه لـولادة مفهـوم الإثنـية الـذي تـم توزيـعه بكـرم حاتـمي على الشعـوب المستعمَرَة. وفي حين تـشكـلت الأمم الأوربـيـة فـي عـنف اقتـصاد السـوق والحروب،وجدت "الإثنيات" الجنوبية نفسها في مركز الشك بين شيفرات إن لم تكن دائما قابلة للفك والتفسير، فهـي قابلة للتغيـير ضمـن عـلاقاتها بمكـوناتـها والمهيمن الدولي والجوار. لكن مع صور تكلّس تظهـر للسطـح دور إغـلاق تكـوين متمـيز محدد، في عمليات السيطرة وإعادة السيطرة الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية.
إلا أن الحضــارة الغربيـة التي غزت العالم بالبضاعــة والمطبعة والمدفع، أو لنقل الثـورة الصناعية وعصر التنوير والاستعمار بأشكاله المتتابعة، تعاملت مع هويتها الخاصة باعتبارها الهوية، مع ثقافتها القومية باعتبارها الثقافة الإنسانية، مع عمليات إنتـاج المعرفـة فيها باعتبارهـا المعرفـة العالمية. من هنا تحولت أشكــال تفسيرهـا لعالمها الخاص إلى صيغ قاصرة عند التعامل مع عوالم أخرى، وتحولت أشكال النضال الفكري فيها إلى إيديولوجيات خارجها.
ليس هناك من ضرورة لتحميل أبو البقاء الكفوي والجرجاني ما لم يجل بخاطرهما وهما يتحدثان عن "الهويــة". ولعل الملاحظـات الأبرز في الكتابـات التاريخيـة الإسلامية ، تلك التي يقدمها ابن خلدون في مقدمته عن دور الوظيفة في أية علاقة اتصال والتحام وتمايز. سواء لغاية الغلبة والسلطان والقهر أو بهدف الدفاع عن الذات.
جمع عصر التنوير في مشروعه التأسيسي بين الحقوق الطبيعية والعقد الاجتماعي والتحرر من السحر وإقرار تفوق الإنسان بالمعرفة. قطيعة التنوير مع التاريخ المسيحي الأوربي وظلمات القرون الوسطى اعتمـدت مبدأ نهاية عصر الإنسان القاصر. نصبت العقل أسطورة جديدة والمعرفة سلطة قادرة على التعيـش، ليس فقط من الإنتاج الفكري والمادي الخصب الذي أطلقت عقاله الثورة البرجوازيـة-المدنية، بل ومن الظلم و"عنف التحيز" في العلاقة مع الآخر كما يذكّر(مـيشيـل فوكـو). سيحــاول ماركس إعطاء الاقتصـاد صالون الشرف في تفسيره للعالم.
" المجتمع ، يقول ماركس في مخطوطـات 1844، - كما يبدو لرجل الاقتصـاد السياسي - هوالمجتمع المدني، الذي يكون كل فرد فيه مجموعــة من الاحتياجـــات، ولا يوجـد بالنسبة للشخص الآخر –كما لا يوجد الآخر بالنسبة له- إلا بقــــدر ما يصبح كـل منهما وسيلة للآخــر. فرجل الاقتصاد السياسي ينتهي بكل شيء (تمــاما كمـا تفعل السياسة في حديثها عن حقوق الإنسان) إلى الإنسـان، أي إلى الفرد الذي يجرده من كل تحديــد حتى يصنفه كرأسمـــالي أو عامل.". الطبقة هي التعبيــر الأهم للهوية، وصراع الطبقات هو المحدد الأساسي في التاريخ. القوانين الطبيعية للإنتاج الرأسمالي تعانق مجموع مظاهر المجتمع الحيوية، ولأول مرة في التاريخ يخضع كل المجتمع لتطور اقتصادي يكون وحدة.
لا تخلو كتابات ماركس من ازدراء واحتقار لأشكال الانتماء ما قبل الرأسمالية ولو أنها لم تشكل موضوع دراسة له في ذاتها. لنستحضر مثلا هذا التعريج في إسهامه في نقد فلسفة الحق: " يا له من مشهد ! إن التقسيم اللا متناهي للمجتمع إلى مجموعة من الأعراق Rassen التي يعارض بعضها بعضا بكراهياتها السخيفة، بضميــترها المؤنب ، بضحالتها الفظة، والتي بسبب الموقف الملبّس والمشبوه لكل عـــرق إزاء الآخر، يعاملها أسيادها، كلها وبلا تمييز، على أنها كائنات مسموح بوجودها، ولو أنهم يلبسون هذه المعاملة أشكالا مختلفة. حتى واقع كون تلك العناصر مقهورة، محكومة، مقتناة، فإنها مجبرة على اعتبار ذلك وإعلانه هبة من السماء !"
باعتباره النقلة الأوربية ثورة جزئية، سياسية فحسب، في مقابل ثورة البروليتاريا الجذرية والشاملة، وضع ماركس أسس المقاومة للنظام الجديد من داخله وخارجه، فليس للطبقة العاملة وطن، ولن تستبدل طبقة بأخرى بل ستؤرخ لنهاية التاريــــخ الطبقي وبداية التجمع الحر للأفراد.
لم يجد ماكس فيبر عند ماركس ما يرد على أسئلة جوهرية تتعلق بتشكـــل وتفتت الجماعات القديمة والجماعات المدنية الجديدة. كما أنه لم يعثر على ما يشفي غليله في تكون تجمعات المصلحة في الفصل التعسفي بين ما سمته الماركسية التقليديــة بالبنية التحتية والبنية الفوقية.
من هنا، يعتمد فيبر في قراءته لصيغ الفعل المفهوم بشكل عقلي
أولا ، الصيغ التي نسميها اليوم بالعضوية والتي استعمل لها تعبير Vergemeinschaftung. تلك التي تصف العلاقات الاجتماعية المؤسســة على المشاعر الذاتية (تقليدية كانت أو عاطفية) للانتماء إلى صيغة جماعية. وهي تشمل نمطين كبيرين يتضمنان صيغتين للرابط الاجتماعي: الأولى ترتكز على قوة التقاليد من روابط تمر عبر النسب والميراث الثقافـي، وتلك الناجمة عن التمــايز الجماعي والعاطفي حول شخصية كارزمية، حقيقية كانت أو وهمية.
ثانيا ، الصيغ المجتمعية Vergesellschaftung التي تصف العلاقات الاجتماعية المؤسسة على التوافق وتناسق المصالح بشكل عقلاني كقيمة وكغاية. وهي تضـم نمطين : 1- العلاقة بالقيم وعقلانية الفضيلة، الأمر الذي يعني توافقا عقلانيــا في التزام مشترك. 2- علاقة مرتبطة بوسائل لغاية تفرض نفسها بنفسها كالمصلحــة الاقتصادية بالتبادل التجاري أو المنافسة من أجل أوضاع معيشة أفضل والتجمع الطوعي للأفراد للدفاع عن مصالحهم.
"هوية نحن- أنا".
لا يوجد هوية أنا بدون هوية نحن، والهوية لا تخرج عن عملية تاريخية وحضارية تنتقل بالبشرية من الهيمنة الشمولية للنحن إلى حالة متقدمة للتفرد.
فالمجتمع يتكون من ممارساتنا وعلاقاتنا المتبادلة ، وإن لم تكن هذه العلاقات "حرة "، فهـي ليست قوى طبيعية. لا يوجد الفرد إلا في مجتمع ، ويتوقـف التفـرد على نمط التنظيم الاجتماعـي.
لذا يجب القطع مع منطق الجواهـر المعـزولة والانتقـال لتأمل حول العلاقات والوظائف. " سيرورة الحضارة " هي التعبير عما نسميه "سيرورة التفريد" التي تنتقل بالبـشر من الأشكـال الأولى لتمايز الجماعات على أسـاس روابط الدم والدين واللغة والتقاليد. وإن تبدو معطيات ما قبل الحضارة الغربية المعاصرة غير واضحة المعالم والدلالات ، فمركزة السلطة في دول من نمط جديد يفترض احتكار العنف الشرعي وجمع الضرائب من قبل أمراء صاروا رؤساء دول. سيجعلهـم يبتكرون المراقبة الذاتية على النفس كوسيلة تضمن سلطانهم. بحيث ترافقت العملية السياسية بتحولات نفسية بالغة الأهمية :
الحصر الداخلي المتصـاعد للعواطف والتحول من العدوانية الموجهة للخارج إلى دفع موجه نحو الداخل. ويعود التشكل البطيء للأنا النفسية كموضوع أخلاقي إلى الصعوبات التي رافقت تشكل الدولة الحديثة. هـنا يجري الحديـث عن المركزة السياسية والتعقيد في الأوضاع الاجتماعية والكثافة المادية والأخلاقية في المجتمع باعتبارها جزء لا يتجزأ من ولادة معتقدات جديدة فلسفية ودينية.
لقد فرضت الدولة - الأمة نفسها بالتدريج كصيغة غالبة للنحن المجتمعية في أوربة. وتمتع صعود الفكرة القومية بشرعية متصاعـدة للهوية القوميــة باعتبارها الصيغة السائدة للهوية منذ الـقرن الثامن عشر حتى القرن الماضي. لم تتشكل عملية "الوعي" القومي دون مخاضات مؤلمة في السيف والوعي. إلا أنها وبقدر ما كانت تتبلور في إيديولوجيات بقدر تركت الباب مفتوحا أمام كل تعبيرات التطرف.
فباسم القومية الأكثر "نقاء" وعنفا وشمولية سترتكب جرائم ضد الإنسانية بشكل لا سابق له في التكثيف المكاني والزمانـي في حربين كونيتين. إلا أن مسيـرة الـدول منذ منظمة الأمم المتحدة تتوجه نحو (نحن) معولمة.
الإنسانية كانتماء مشترك ، مترافقة بتعزيز المطالب الإثنية والقومية والدولانية والاعتقادية : (نحن) محلية منظمة في دولة شرعية أو جماعة ثقافية. و(أنا- بالجمع) تتميز عبر جماعتها الثقافية أو المحلية.
يبقى أن مصدر الخوف يكمن في تلك الاستمرارية الضمنية ، في الثقافة الغربية لتمثــل النحن والآخر في منظومة تمايـز وتفاضل تشكل بالضرورة عنصرا في تعزيـز أشكال الانتماء المحلية باعتبارها وسائل دفاع ذاتية. لا يمكن الحديـث عن أنماط صافية للجماعات البشرية.
فالهوية أيضا سيرورة وبالتالي أزمات. تتكـون الهوية عبر أزمات وليس العكس، كونها حركة تتكون عبر الأزمات. بالتالي، ورغم أن أساسها المفهومي قائم على الثبات ، فهي في تغير دائم ، سريع ، أم بطيء ، بعوامل ذاتية أو خارجية لا يهـم.
المهـم هو أن عمق أي شعـور بالهوية قضية نسبية في المطلق. وفكرة الجمود في الهوية ، التي قادت اليسار التقليدي للخوض في مواجهة نظرية وسياسية بين الحرية والهوية ، المواطنة والانتماء ، النحن والآخر، هي ابنة أحكام مسبقة وثنائيات تحتضر لم يعد لها من معنى إلا لتفسير واقع إيديولوجي نمطي صنعه المثقف والسياسي.
في حين تشكلت الهوية القومية في عملية إعادة تكون داخلية للدولة والمجتمع، كانت الهوية القومية في العالم العربي الذي نحن جزء منه وليدة ظروف أزمـــة، بل لنقل بدقة أكثـر حالة اغتصاب. لقد جــرت محاولـة القطيعــة مع الأنمـتوذج العثماني في ترجيـح للمفهـوم الغربـي لا في تشجيـع لإمكانيـة استنبـاط محلية تنجم عـن فـتك الاستعصاء التاريخي. لنأخذ مثل الجنسية والنقابات والمحاكم ، لم يجـر هضم كاف لهـذه المؤسسات في مجتمعاتنـا، وبالتالـي بقيـت بعيدة عن الإحساس الشعبـي ومصطنعة بالنسبة للكثيرين. الأمر الذي خلق فجوة بين المؤسسة الحديثة والمجتمع. باعتبار هذه المؤسسات لا تلتقي في القراءة العفوية الأولية مع مصالح الناس.
هذه الفوضى في الهوية والمؤسسات والانتقال بين حقبتين ونمطي إنتاج مختلفيــن خلقت فراغا هائلا في التكوين السياسي للبشر. من ذلك استفاد جيل كامل استطــاع التنفس في ظل الليبرالية الاستعمارية التي أعطت الناس هامشا سياسيا وثقافيا سمح لهم بالتأهيل الذاتي والتكوين المعرفي بشكل يفوق بكثير تأهيل جيل حالة الطوارئ الذي عرفناه. الأمر الذي وفّر تدارك فجوات كبرى في طموح كبير لكسب معركة الزمن والبلــوغ الضروري لبناء مستقبل مختلف. إلا أن دولة الاستقــلال القطرية جــاءت وليدة عوامل تعسفية أو بمحض الصدفة ، كما يقول محمد حافظ يعقـــوب . وصـار السـؤال المركــزي: كيف يمكــن بلورة هوية سياسية وثقافية ضمن حدود خضـعت إما لإرادة موظفيـن من الدرجة الثانية في الإدارة الاستعمارية أو نتيجة لموازين قوى رجحت هذا الاتجاه أو ذاك؟ وحده الشعور الجماعي للمجتمع السياسي الجديـد بالانتماء إلى قضية كبيرة واحدة كان وراء التماسك الضروري لإنجاز الاستقـلال الأول، أو التخلص من نفس القيود وتجاوز نفس الإشكالية (الاستعمار المباشر).
لذا لم يكن الرعيل الأول ابن ما يسمى بالنهضة وحسب، بل ابن الهوية الأكبر التي تسمـح بالإطلال على العالــم والعيــش بالبعد الإنساني، أو على الأقل الكوني. هذا الرعيل أسس لحركة وطنية دينها العلم تعتبر معركتها في اللحمة الوطنية، أي قبول مكونات المجتمع السياسي كافة، وبرنامجها في فتح المدارس وتعلم الناس ومكافحة الهيمنة الخارجية. لم يحمل جيل الاستقلال مكارم هذا الجيل عندما جعل من الدولة الوطنيــة المفصّلة على مقـاس مستعمريهــا دولة تدخليــة في مواجهة مفتوحة مــع المجتمع، وبالتالي في موقع معاد بالضرورة للأمة. عندمــا لم يعد بالإمكان تحقيــق الشرعية السياسية من تحت، صار بإمكان التجمعات الحاكمة الجديدة الذهاب بعيدا في فرض تصورها مع قناعة واعية أو غير واعية تعتبر أن الوصول إلى السلطة يسمح لها بإعادة فبركة الهوية السياسية للناس على أنموذجها المسخ.
تبحث الهوية السياسية عن عناصر ارتكاز لها في الهوية الثقافية. ليس لأن الهوية الثقافية هي المعبر عن مصالح الجماعة ، ولكن لأنها أصبحت في الصراع غير المتكافئ على السيطرة والهيمنة في العالم.
الوسيلة الأكثر اقتصادا لبلورة برنامج متميز للجماعة ، برنامج يختصر كل مسافات الابتكار السياسي والتجربة والخطأ والطـرق المجهولة المآل.
لكن حامل هذه الثقافة وهذه الهوية هو ابن القرن الواحد والعشرين، وبالتالي فهو يحمل في أعماقه كل معالم الصراع بين الاتكاء المريح على منجهية الخطبة ، والمواجهة الفعلية مع منجهية القوة ، الانكفاء على الذات وضـرورة إعادة مناقشـة مكونات الذات ، قوة التعبئة التي تمنحها الهوية الثقافية ومحدوديتها في تعبئة القوة في الحياة العملية.
لذا يمكن القول أن الهوية السياسية الدافع والغـرض هوية متحركة متعددة المشارب قادرة على التجدد بشكل أسرع من الهوية الثقافية. وهي ابنة أوضاع أكثر منهـا ابنة ذاكرة جماعية وفردية ضرورية الاستحضار.
من هنا شكلـت أشكال الانتماء السياسي الترجمة الأكثر صدقا لمعطيات العصر، مهما كانت المرجعية الثقافية والرمزية لها.
الأمثلة على هذا لا حصر لها، ولعل أكثرها بلاغة مفهوم التنظيم اللينيني عند حسن البنا، الهوية القوميـة الغربيـة في الاتجاهـات القوميــة العربية، استنساخ النمـوذج الستاليني في نظريـة الدولة عند المودودي. ليس فرج الحلـو بل مصطفى السباعي من قال "لا أعتقــد أن الاشتراكيــة "موضة" ستزول، بل هـي نزعة إنسانية تتجلى في تعاليم الأنبياء ومحاولات المصلحين منذ أقـدم العصور". من يستطيع إغفال التقاطعـات المركزية بين الحزب القومي القائد والحزب الثوري وحزب الله المخلّص في زمن حــالات الطوارئ التي أنجبت إيديولوجيات الطوارئ؟ أين البعد التقدمي لليبرالية العربية في بداية القـرن العشرين كمشروع اجتماعـي وسياسي تحرري من أفول التعبيرات الليبرالية العربية بعد قرن باعتبارها الترجمة الأمينة للجري الذليل النفس والروح وراء أفول المنابع؟
الانتماء القومي في الخمسينات ، كان يعني التخندق في أتون حركة التحرر الوطني التي تجـاوزت الثقافة القومية والاعتقادية. أما أن تكون شابا ماركسيا في العالـم الثالث في 1968 فهذا يعني فيما يعني أن تكون ابن عصرك. أن تكون إسلاميا في الحقبة نفسهـا يعنـي أن ترد على عصـرك وظروفـك. الجيل الذي تلا تلك الحقبة اجتمع عنده الانتماء الإسلامي والانتماء للمحيط والـرد على العصر قبل أن يضـع صلب عينيه ، من دروس الواقع ومقتضيات الحياة ،أن الانتماء للعصر لا يتعارض بشكل جوهري مع الانتماء للإسلام. لذا حطم الكومبيوتر في أيام الثورة الإيرانية الأولى ثم عاد ينظم دورات تعليمية في التكنولوجيا الحديثة وصولا لحـوار الحضارات... في الجبهة العلمانية ، كان هناك أغلبية تصر على القول أن العلمانية هــي الكل ، الإسلامية هي الاستقصاء. في كتابه ، "مؤمنـون أو مواطنـون" يحاول محمد حربي التأكيد على هذا المعطى: المواطنة لا تمنع الإيمان ، الإيمان يقيده. الواقع كان مختلفا تماما ، العلمانية الإستئصالية همشت بل نبذت الإيمان.
أمـا الإسـلام السياسي بتياره العريـض فقد تعلم من ضربات الواقع معنى التحرر من فكرة الحزب الواحد المخلص القائد التي أشعره القمع وخصمه السياسي والإيديولوجي ليس فقط بهزالتها، بل بالقرف منها. بهذا المعنى كان التعسف الذي عانى منه مدرسة للتسامح وإعادة اكتشاف الذات وقبول الآخر.
في حين لم ير عدد من المثقفين في السمـاح للحجاب في بعض الدول الأوربية إلا أن الإحــراج الذي تسببـه لدول كتركيا وتونس، كان علمانيون وإسلاميون رافضــون للنظام التسلطي في تونس والميراث العسكري في تركيا يروجون أكثر فأكثر لفكرة حريـة الاختيار في السفور والحجـاب في تركيـا كمـا في إيران. بدأت إذن بالتشكل معالم سياسية لهوية أكثر تماسكا ترى في المواجهة الدائمة بين المواطنـة والإيمان حربا أهلية في الكلمة والواقع. ولعل هذه الثغرة في الإنتاج المشوه لحالات الطوارئ تترك الأمل في إمكانية وضع حد لآليات تدنيس الوعي.
الهوية ،( بالمعنى الجمـودي والساكن والمتمتـرس وراء حجاب العقل والرافــض للثقافة باعتبارها محرك التجديد المجتمعي والفعل الذي يسمح بإعادة إنتاج وابتكـارالذات) ، لم تعـد ســوى أنشـودة الحماس في لحظات الاعتداء على شــرف الأمــة. الحركـة ، التغيير والقــدرة على استنباط صورة الغــد يحدثنا عنها "المثقف" محمد خاتمــي بالقول: "التـراث، كما هي الحضارة، شأن بشري يستحق التغيير وإن آمنا بأبعاد ثابتة في مجــال حياة الإنسـان المعنوية والعقلية والإرادية، فإنه يجـب القول، بأن جانبا مهمـا، إن لم نقــل جميعه، ممــا نصطلح عليـه بالتراث، هو نتـاج بشري متأثر بالظروف الاجتماعية والتاريخية للمجتمعات، وبالتالي فهو عرضة للتغييـر وليس مقدسا وخالدا". لا يختلـف هذا الطــرح كثــيرا عن مأثورة عصام العطـار: "
كيف نقبـل الجمود ، بل كيـف يمكـن الجمود في عالم تتجدد معلوماته ومعطياته ومطالبه ووسائله.. باستمرار لابد لنا من التجدد الدائم والإبداع المتواصل والجهـاد المضني في كل مجال.. وإلا فقدنا حياتنا ووجودنا الفاعل المؤثر وأزاحــنا الركـب البشري عن طريقـه وقذف بنا إلى هامش الهامش أو هوة التاريخ. فذهبنا جفاء كما يذهــب الزبد وغثاء السيل ومحينا من لوحة الحاضر والمستقبل وتحولنا إلى ذكرى من ذكريات الماضي البعيد".
يبقـى من الضـروري التذكيـر بأن الناس يرفـضون الشعـور بأنهم في أزمة ، لأن الهوية عند غالبية البشر أيضا عنصر اطمئنان بامتياز Par excellence ، لا بالعقـل. ويمكن القول بأريحية أن هناك من يعيش ويموت دون أن يشعر بأنه في أزمة ، كالإنسان الذي ينام أقل من حاجته الفيزيولوجية في اليوم ولا يشعر بالإصابة بأي نوع من الأرق. ففي عالم أصبح الخوف فيه إستراتيجية هيمنة وسيطرة للقـوة الأعظم، يمكن القول أن البحث عن عناصر اطمئنان ذاتية تصبح الملاذ الضروري للأضعف. لكن هذا الملاذ يحمل كل التناقضات التي دفعت بالجماعة إلى التراجع نحو عناصر يمكن التعرف عليها بسهولة والاطمئنان لها بعفوية.
هناك أيضا إشكالية كبيرة تواكب ولادة وحالات إنضاج واحتضار الهويات.. فكل محاولة دمج لمجموعة من الهويات القادمة من ثقافات متفرقة ومتباعدة وتحويلهـا إلى هوية واحدة، هذه المشاريـع المحددة سلفا لرسم معالـم هوية جديدة ، تحمـل كل مخاطر القمع الاجتماعي والثقافي والنفسي بشكل مباشر أو غير مباشر. إنها تزرع في اللاوعــي صدمــة الإكراه التي تجعل احتمــال ولادة كائن مســخ ، ذي هويــــة مضطربـة وغامضـة، باعتبــار أن الهوية تخلق على امتداد زمني يقيم ويُسقِـط.
إلا أن هذا السيناريو المنطقي ليس حتمية واحدة. فقد تتجدد أشكال الانتماء وتتصـارع إلى أن تصـل إلى تعريف واضـح ومحدد لهويتـه الثقافيــة والقوميـة التي تعبـر عن مصالح أغلبية اقتصادية واجتماعية وثقافية في زمن ومكان محددين. كما يمكن أن تكون مجرد وسيلة دفاع مؤقتة ومحلية في معركة الدفاع عن حقوق جماعية أو فردية. وإما العكس ، أي استغلال جماعات بشرية أخرى وأوضاع محددة.
من هنا ، دفاعنــا عن مبادئ عالمية لحقـوق الإنسان ينطلق: أولا، من مبدأ قبـول الفروق المرئية وغير المرئية في الثقافات ، سواء كان الأمر يتعلق بمحتوى الثقافة أو بمناهج تناقلها من جيل لآخر أو مدى قدرتها على الاغتناء في الزمان والمكان والتفاعل مع الآخرين. ثانيا، من الحرص على رفض توظيـف ما يعرف بالعالمية أو الخصوصية سواء بسواء لأية غايات ترجح القوة على روح العـدالة ، وتحجم الحقوق لحساب المصالح أو الإيديولوجيــات. ثالثا، التذكير باستمرار بأن مضمون الفكرة الإنسانيــة غير مستقر، وهو دائم التحول، كما هي مخاضات انعتاق الوعي. فكل مشروع حضاري يطرح تصوره للعالم ويطرح أيضا مثاله للعدل.