تذكرني حالة التِّيه والتخبط التي سيطرت منذ الأسابيع الماضية على المشهد السياسي في البلد إزاء موقف رئيس الجمهورية من الترشح لمأمورية ثالثة بقصة العرافة "أوراكل" حيث كان الإغريق ينظرون إلى هذه العرافة الجالسة في حالة من النعاس وسط سحب من البخور طيب الرائحة في معبد " دلفي" باعتبارها تمثل برهانا لدى المقبلين على اتخاذ القرارات المهمة في حياتهم، فقد كانوا يأتونها ويجلسون إلى وسيطة بينهم وبينها تدعى "بيقيا" ويسألونها فتحمل أسئلتهم إليها، فتجيب بأقوال مبهمة وملغزة تأتي في ثوب شعري خالص، ويفسرها كل منهم كيفما شاء.
وفي مرة، طلبت منها بعثة من أثينا أن تعلمها بأفضل الطرق لصد هجوم ملك الفرس أحشوروش الأول (520 -465 ق م ) فردت عليهم قائلة: من أعلى قمم المعابد يتدفق دم أحمر غامق ككرز لسوء الحظ المحدق. فلتتركوا الغرفة المقدسة، ولتبقوا شجعانا إبان الويلات والخطر! فقط السور الخشبي، الذي لن يدمر، يهديه كبير الآلهة زيوس لابنته أثينا، لأجلك ولأجل الأطفال فلتستخدموه.
وعادت البعثة إلى أثينا لتتداول الرأي حول ما سمعت، ودب بين أفرادها اختلاف، فهناك من فسر السور الخشبي على أنه أشجار الأشواك الكثيفة حول "الأكروبول"، لكن سرعان ما غاب هذا التفسير لحساب آخر يقول إن المقصود هو بناء أسطول حربي، وانتصر هذا الاتجاه، وجهزوا الأسطول بالفعل، وانتصر الأثينيون في هذه المعركة وهم أقل عددا وعدة."
ومع أن رئيس الجمهورية عبّر أكثر من مرة بشكل واضح وصريح عن عدم الترشح لمأمورية ثالثة بدأ البعض يفسر تصريحاته بالتشكيك كل على طريقته الخاصة، ورغم أن موجة التفسيرات التشككية تلك كانت في البداية من طرف أحزاب المعارضة فقط، إلا أنه وبعد اقتراب انتهاء المأمورية الثانية للرئيس بدأت مبادرات موالية باسم بعض الولايات الداخلية تطالب بخيار المأمورية الثالثة أثناء وجود الرئيس في عطلته السنوية ببوادي تيرس الزمور.
لتنتقل بعد عودة الرئيس من العطلة وأثناء تحضيره لزيارة دولية يقوم بها حاليا لعدد من الدول في الشرق الأوسط إلى حملة برلمانية لصياغة تعديل دستوري يسمح للرئيس بالبقاء في السلطة بعد إلغاء مادة المأموريات، الأمر الذي تسبب في إحداث شرخ داخل الأغلبية البرلمانية الداعمة للرئيس، وخاصة الكتلة النيابية لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية بعد أشهر قليلة على تكليف لجنة وزارية لإصلاحه قبل الاستحقاقات البلدية، التشريعية، الجهوية الماضية، والمؤتمر الوطني العام المحضر للاستحقاقات الرئاسية المرتقبة.
لذا فإنه كان من الضروري جدا أن يعلن رئيس الجمهورية اليوم لأصحاب هذه المحاولات المتكررة المبنية على تفسيرات مناقضة لتصريحاته أن قراره بشأن المأمورية الثالثة لا رجعة فيه وليس من ألغاز "أوراكل" حتى يفسره كل واحد منهم كيفما شاء. خصوصا أن تلك المبادرات - التي حاول أكثر من مرة تجاهلها باعتبارها حرية رأي كالمطالبة برحليه من طرف البعض - بدأت تأخذ طابعا جهوياً واضحاً وتشكل خطرا على استقرار البلد في ظرف حساس جدا، كما كان من المتوقع أن تشكل فرصة لبعض المتربصين بالبلد يسجلون من خلالها حضورهم الميداني لزعزعة الأمن وتخريب الممتلكات العامة، والعودة بنا إلى المربع الأول ونحن على مشارف انتخابات رئاسية استثنائية في تاريخ البلد.
إن بيان رئاسة الجمهورية اليوم جاء في وقته وحمل رسائل مهمة تنم عن مسؤولية وطنية كبيرة لدى هذا النظام اتجاه شعبه، كما وجه صفعة قوية لكل من يحاول عبثا الدخول بين رفاق الدرب للتشويش على قراراتهم المصيرية من أجل أمن واستقرار وتنمية هذا البلد الذي كفر به الكثير من أبنائه من أجل مصالح شخصية ضيقة.
وبإغلاق الرئيس لصفحة المأمورية الثالثة نهائيا ووضعه النقاط على الحروف ستبدأ مرحلة جديدة من "اليقين السياسي" شعارها أن الإيمان والتشبث حقاً بهذا النظام يكمن في دعم ومساندة خياره القادر على مواصلة نهجه ومساره الإصلاحي بالتناوب السلمي على السلطة، والوقوف في وجه كل محاولات المتربصين باستقرار البلاد خصوصاً في هذه المرحلة الخاصة التي تقتضي منا جميعاً اليقظة الدائمة من أجل وحدتنا المهددة بخطابات الكراهية والتطرف.