بَبَّ ولد التَّاه رحمه الله. . الإنسان و المثقف و العبد الصالح..

أحد, 13/11/2016 - 18:04

عرفتُه كإنسان و مثقف و عبد من عباد الله الصالحين..
الإنسان..
سكنتُ و إياه في بداية السبعينات مدة سنة دراسية كاملة في أحد الأحياء الإدارية في" كَبِّتال" تحت سقف منزل واحد لا تبلغ مساحتُه الإجمالية مائة متر مربع تُؤوي غرفة للموظفين وغرفة للطلاب - و كنت أحدهم - و غرفة أسرية اصطُلح على تسميتها "بيت أهل التَّاه " يقيم فيه إلى جانب الفقيد أخوه العلامة حمدن و ربما التحقتْ بهما على مضَضٍ والدتُهما لبابه بنت ببَّها كلما اقتضتْ ذلك ظروف صحية طارئة! ذلك أنها لم تكن تُطيق لا المُقامَ في " الدشْرَ" و لا الإنفصال عن جوار أخيها في المذرذره القاضي حامد بن ببَّها رحم الله الجميع.
و لا أنسَ كم كان ضجرُها باديا ذلك اليوم الذي خاطبها فيه أحد نُزلاء بيت الموظفين المجاور قائلا: " رأيت في ما يرى النائم أنَّنِي و إيَّاكِ نُقيمُ في انواكشوط لضرورة تدريس الأبناء". قاطعته رحمها الله و هي تكرر: بالله عليك قل لا قدر الله! يومها لم يكن يتصور أن التمدرس سيُصبح ضرورة تفرض السكن في العاصمة.
في تلك الأثناء عرفت الإنسان المتواضع الخيِّر المُحب للجميع ذا القلب الطاهر الطيب الكبير الذي لا يحمل في طياته غِلاًّ لأي إنسان..
المثقف..
كان بيت الموظفين يتحول عشيةً إلى "صالون" تُدار فيه كاسات الشاي و قطع الخبز المنطوية على يسير من الزبد كما يَدُور فيه من الأحاديث العلمية المتشعبة المفيدة ما لا يُملُّ سماعُه.و ما بالك بمجلس ربما حضره ابن خلدون موريتانيا المختار بن حامدن قادما إمَّا من مكتبه و إمَّا من منزله و كلاهما مجاور.و أذكر أن التَّاه قال مرة على وجه الدعابة و قد صادف مجيئه توزيع " الأَطاجين" المذكور :أنا لن أبرح هذا المكان الذي أُحظى فيه بمجالستكم و بالشاي و بالخبز!
و ربما اتسع المجلس كذلك ليشمل بعض الموظفين السامين من أمثال محمد ولد اخليل المدير العام للأمن الوطني آنذاك و هو من الأدباء و غيره من الموظفين و بعض النابهين من تجار الجوار.و لم يكن القوم يجدون أي غَضَاضَة في أن يعقدوا جلساتهم العلمية الليلية في الهواء الطلق أمام المنزل على مرأى و مسمع من المارة من الركاب و الراجلين. و الطريف أن بعضا من ذوي الحوائج الملحة في الإدارة العامة للأمن الوطني تنبهوا إلى أن وجود المسؤول الأول لهذا المرفق العام الهام قد يكون أرفق بهم هنالك فأصبحوا يرتادونه فيقضى حوائجهم بأريحيتة المعهودة.
كنت المحظوظ من بين الطلاب إذ تقلدتُ في ذلك المجلس النيِّر مسؤولية صانع الشاي " القيَّامِ " بأمره و هي مسؤولية دائمة لعلها الوحيدة في مساريَ المهني التي كنت فيها ذا صلاحية مطلقة فاجتهدتُ ما وسِعَنِي ذلك خوفا من مغبَّة الإعفاء من المنصب ! .
طوال تلك المأمورية التي لم تكن محدودة في الزمان كان المرحوم ببَّ ولد التَّاه من بين المُنعِشين لذلك المجلس و من خلال تدخلاته عرفتُ الرجل المثقف .رحم الله الأستاذ عبد الله ولد يحظيه كان يعتبره أكثر المنعشين كثافة في المعلومات و تركيزا لدى توصيلها للمتلقين. في تلك الأثناء شارك الأخَوان حمدن و ببَّ في مسابقة دخول المدرسة العليا للأساتذة.و كما سبق أن ذكرت كنت حاضرا عندما جاء إلى المنزل مدير المدرسة رئيس لجنة التحكيم و قال:جئتُ أستبق إعلان النتائج لأخبركم بقرار اللجنة. بعد تقييمنا للنتائج وجدنا أنفسنا أمام خيارين.فإذا اعتمدنا كمعيار ما كتبه حمدن نجح وحده و رسب الآخرون و إذا اعتمدنا كمعيار ما كتبه ببَّ ألغينا عمل حمدن و نجح ببَّ و نجح معه بعض المترشحين، فاضطُررنا إلى اعتماد الخيار الأخير!
هكذا أعلن أستاذنا الدكتور محمد المختار ولد ابَّاه نتائج تلك المسابقة لذينك المشاركيْن!
و ابتداءًا من تلك اللحظة بدأتْ ملامحُ المَسار المهنيِّ لكل من الرجلين تتحدد.أما ببَّ رحمه الله فقد واصل في سلك التعليم الأساسي كمفتش و أما حمدن حفظه الله فلم يلبث أن اختاره الشيخ عبد الله بن بيّه مديرا للشؤون الإسلامية قبل أن يصبح وزيرا 1975 ثم سفيرا إلى غير ذلك من المسؤوليات المعروفة.
العبد الصالح..
كثيرا ما كنت أسمع عند ببَّ و حمدن منذ القِدم ثم عند ببَّها ولد أحمد يوره في ما بعد و جمال ولد الحسن و الخليل ولد أنحوي عن خبر العلامة التونسي ولي الله جلول الجزيري الذي يجمع هؤلاء على علمه و صلاحه و يروون من كشفه الصريح العجب العُجاب.
و صادف أن انتُدِبتُ في شهر فبرير من سنة 1981 ضمن وفد موريتاني من قطاع الصيد البحري يمثل موريتانيا في معرض دولي يُقام في المنامه عاصمة البحرين.و لا تزال تحضرني نكتة بالمناسبة فقد كان أخونا محمد سالم ولد عبد المومن يتندر على وفدنا ذاك فيقول:عجبتُ لمن ليس له إلاَّ بحرٌ واحد يعرض منتوجه البحري على قوم ذوي بحريْن اثنيْن!المهم أنني استأذَنتُ فأُذِن لي بتغيير خط العودة فمررتُ بجدة و تونس و الدار البيضاء.
و في تونس نزلت ضيفا على الفقيد الذي بادر فأوضح لي مُهمتَه الدراسية و لم تكن بديهية فقال: ماذا عسايَ أتعلمه ممَّا أجهله و أنا في مثل هذه السن؟! لقد استبدلتُ وظيفتي كمدير بمجرد منحة سنة دراسية من اليونسكو أتخذها فرصة لا للتمرس في تقنيات محو الأمية و إنما للتربية الروحية على الشيخ جلول الجزيري الذي ضعُف جسمُه و تقدَّمت به السن!
و أنا أيضا كنت أنتهز الفرصة للقاء بذلك الشيخ العجيب فرافقني إليه في اليوم الموالي في حانوته رقم 7 في سوق الشواشية ثم أتيناه في منزله فاستقبلنا في غرفة نومه و أجلسنا إلى جانبه فوق سريره الخاص .كنت عن يمينه و كان عن يساره و من عفوية الشيخ جلول الطريفة أنني لمَّا قدمت إليه هدية متواضعة هي بقية من نقود أهدانيها مرافقي في السفر الشريف المرحوم مولاي الحسن ولد حمَّادي قال:إن الهدايا على قدر مُهدِيها إذ لو كانت على قدر من تُهدى إليه لكانت أكثر من هذا بكثير! كان الشيخ بارعا في " سر الحرف" و قد أمر أحد أبنائه بأن يناوله من الرفوف كتبا معينة عَّرفنا ببعضها و أعرض عن بعض فقال: أما هذا فهو كناش الأسرار التيجانية و يتضمن منها العجب العُجاب و أما ذلك فهو كناش الأسرار القادرية و هو لا يقل شأنا عن الأول ثم طفِق مسترسلا في ذكر بعض إجازاته من بعض أشياخه في استخدام تلك الأسرار فتناولت عفويا أحد تلك الكنانيش و فتحته فسرعان ما تنبَّه وانتزعه مني انتزاعا و زجرني قائلا:أتركْ هذا فأنت لا تزال صغيرا و سلَّمه لببَّ بسخاءٍ و هو يقول:أما هذا فهو جدير به لأنه من أصحابي القدماء!
فعلا لقد كان الأستاذان حمدن و ببَّ من المريدين القدماء للشيخ جلول الجزيري إذ تعود علاقتهما به إلى عهد دراستهما في بداية الستينات.
قضيتُ مع المدير المريد الطالب ثلاث ليال في بيته ذي البيئة الطلابية الخالصة يتقاسمه معه طالب آخر من عمر متباعد و اختصاص مُغاير هو الكاتب الصحفي لاحقا اعلِ ولد عبد اللَّ. خلال تلك الليالي الثلاث كان يستيقظ للعبادة خفية في الشطر الأخير من الليل و صادف مرة أنْ استيقظنا لاستيقاظه فصرف حديثه معنا للتمويه إلى حكاية الشعر العربي الغزلي و لا يعدم التنبيه إلى نُكت أو نوادرَ منه شاردة! و بالمناسبة فهو مولع بالشعر بشقيْه الفصيح و الحساني و له في كل منهما إنتاج جيد..
لو لم تكن صلتي بالرجل وثيقة لوطَّدتْها أكثر علاقتُنا المشتركة بالشيخ جلول الجزيري الذي توفي في السنة الموالية. فما لقيتُ الأستاذ ببَّ بعد ذلك كيفما كانت طبيعة المناسبة التي تجمعنا و مهما كان لقاؤنا مقتضبا إلاّ و استأثر الشيخ جلول رحمه الله بالقسط الأوفر من حديثنا.
و لم يشذَّ عن القاعدة آخر لقاء جمعنا قبل مرضه بفترة وجيزة .جئته عشية في منزله فوجدته يقرأ من سورة يس فاستفاض في ذكر فضلها إذ من ضمن أذكار الشيخ جلول قراءتها مسبوقة بدعاءٍ يُتلى بصيغة معينة. و لما هممتُ بأن أغادره سقاني من لبن الإبل و ودَّعني بحرارة و شبك أصابع يدي اليمنى مع أصابع يده اليمنى بصفة مخصوصة و تلى سورة قريش بصيغة معينة و قال لي: ذلك تحصُّن لك أن تستخدمه إن شئتَ مع مَنْ شئْتَ.
أدعو اللهَ العليَّ القدير أن يجازيَهُ عنّي بأحسن جزائه وأن ينزل عليه شآبيبَ رحمته وأن يُلهِمَنا و أفرادَ أسرته الكريمة جميل الصبر والسلوان، وأن يسكنه فسيح جناته مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
رحم الله السلف و بارك في الخلف.
Mohameden Ould Sidi Bedena